لا تنفك قضيّة الحجاب في الجامعات الفرنسية بروزا
على سطح الجدل السياسي و الاجتماعي و الثقافي في فرنسا، فالدّولة العلمانية التي
اختارت نظاما قائما على تساوي جميع المواطنين في الحقوق و الواجبات و التي اعتبرت
حريّة الدّين حقّا دستوريا تشهد اهذه الأيام تململا من بروز المظاهر الدّينية في الفضاءات العامّة و
خاصة في الجامعات ليتحوّل التململ فيما
بعد إلى نقطة جدال كاد المجتمع الفرنسيّ
أن ينساها بعد انقطاع أصداء القضيّة لمدّة طويلة لكنّها سرعان ما عادت لتثير
نقاشات كبرى في وسائل الإعلام الفرنسية و في مجالس المثقفين الفرنسيين و في
المجتمع الفرنسي بصفة عامّة.
توصية هامّة ضدّ الحجاب
اثنتا
عشرة توصية هي مخرجات التقرير الأخير الذّي نشره المجلس الأعلى للاندماج في فرنسا
نصّت واحدة من بينها على ضرورة منع جميع أشكال التمظهر الديني و كل ما يبرز
الانتماء العقائدي في قاعات الدروس في الجامعات الفرنسية من الرموز و اللباس الذّي
يبرز بصفة واضحة الانتماء الديني في قاعات الدروس و أماكن التعليم و البحث في المؤسسات
العمومية للتعليم العالي و قد قام المجلس الأعلى للاندماج بالتأكيد على أهمية هذه
التوصية رافعا إياها إلى مرصد اللائكية في
فرنسا أي الهيئة الوطنيّة المخولة للنّظر في مثل هذه الاشكاليات و هو ذاك المرصد الذي أطلقه الرئيس فرانسوا أولاند كمرصد جديد للعلمانية في
شهر أفريل مطالبا إياه بأفكارا جديدة بشأن كيفية تطبيق القانون التاريخي الذي صدر
عام 1905 والذي يهدف إلى حماية المجال العام من الضغوط الدينية مع احترام حرية
الدين.
وتحدث
تقرير المجلس الاعلى للاندماج عن وجود حالات اخلال كثيرة بقوانين الدّولة
العلمانية بتعلة الحريّة الدينية كطلب الاعفاء
أو رفض الاختلاط من قبل بعض الطلبة إضافة
إلى حالات اعتراض على محتوى المناهج المقدّمة أثناء الدروس و هو ما أشار إليه مرصد
اللائكيّة منذ أشهر محذّرا من تنامي الطلبات الطائفيّة و الدّينية داخل الجامعات و
أشار المرصد أيضا إلى انّ بعض الجامعات تواجه مطالب تتعلّق بالقيام بأعمال دعويّة
لنشر الدّين في الجامعات و المطالبة بأماكن للصلاة و احترام العادات الغذائيّة
الاسلاميّة و خاصّة المحرّم من الأطعمة في الديانة الاسلاميّة".
و كانت فرنسا قد
قامت بحضر ارتداء الحجاب في المدارس سنة 2004 كما منعت ارتداء النقاب في الأماكن
العامة عام 2010 و هو ما أثار آنذاك موجة غضب كبيرة بين صفوف المسلمين في فرنسا البالغ
عددهم نحو خمسة ملايين شخص في ذلك الوقت.
ففيما يعبّر الأساتذة في الجامعات الفرنسيّة عن انزعاجهم
من ظهور اللباس الدّال على الانتماء الدينيّ و خاصّة الاسلاميّ في قاعات الدروس
التي يأمنونها و في مدارج المحاضرات يرى الطلبة المسلمون و خاصة الطالبات أنّ خطوات حظر ارتداء الحجاب تحد من حريتهنّ في
اختيار ما يرتدينه أي الحدّ من حريّة اللباس.بينما
تتعلّل الحكومة الفرنسية بالدفاع عن علمانية الدولة والفصل بين الدين والسياسة
حفاظا على مبادئ اللائكية الفرنسيّة.
و في الوقت الذي يتساءل فيه البعض عن امكانية خرق حظر ارتداء الحجاب في
الجامعات الفرنسية للحريات الشخصية في
فرنسا يحتج البعض الآخر مؤكّدا على حق السلطات الفرنسية في حماية علمانية الدولة ليبقى
السؤال الأبرز مطروحا على طاولة النقاش في المجتمع الفرنسي "ما هي الصيغة
المناسبة التي يجب اعتمادها للتوفيق بين ارتداء اللباس الطائفي و توخي الرموز
الدينية واحترام قوانين الدولة العلمانية ؟".
توترّ حادّ في الأوساط الفرنسيّة :
و قد
بلغ الجدل حول هذه القصية أقصاه إثر تصريحات وزير الدّاخلية "امانويل فالس" لجريدة
"لوفيقارو" الفرنسية التي
ضمنّها اهتمامه بالتوصيات المنبثقة عن المجلس
الأعلى للاندماج تاركا لمرصد اللائكيّة
الفرنسيّ الفرصة للاشتغال على المسألة و
البحث عن حلول ناجعة لتفادي ايّ مضاعفات قد تنتج عن رفض الالتزام بقوانين الدولة و
تقديم مقترحات توافقية.
بينما
كان لوزيرة التعليم العالي "جينوفياف
فيوراسور" رأي معتدل في المسألة إذ ردّت الوزيرة على هذه التصريحات ناصحة بالتريث
في البتّ في المسألة مؤكّدة على أنّ وزارة التعليم العالي الفرنسية لم تتلق اي شكاوى حول الموضوع خاصّة و أنّ رؤساء
الجامعات الفرنسية لا يحبّذون إرساء قانون جديد يتعلّق بالحجاب الطائفيّ يخصّ
الجامعات العموميّة مثل قانون 2004 الذّي يمنع ارتداءه في المدارس.
بينما
يسود داخل الأوساط الاسلامية في فرنسا تخوّف من استغلال القانون للتشهير بالدّين
الاسلامي ّ، الأمر الذّي يسانده بعض السياسيين في صفوف المعارضة السياسية
الفرنسيّة الذّين يقرّون برشاد و نضج الطلبة و ضرورة ترك باب الحريّة مفتوحا أمامهم خلافا للقاصرين من أبناء المدارس .
وحذر عدد من السياسيين أيضا من أن حظرا جديدا يلوح في أفق الجدل حول قضية
الحجاب في الجامعات الفرنسية قد يحدث توترا كبيرا بين الحكومة الاشتراكية التي
تدافع بقوة و حزم عن علمانية فرنسا وبين المسلمين الذين يستشعرون بوادر جديدة لعزلهم
ومعاقبتهم بالاستناد إلى مثل هذه القوانين.
يقول "هيرفيه ماريتون" النائب عن حزب الاتحاد من أجل الحركة
الشعبية المعارض " علينا أن نجد التوازن الصحيح بين الحاجة إلى الحياد في
المجال العام والاختيار الشخصي للتعبير عن معتقد ديني".
أمّا
النقابات الطلابيّة فقد وجدت نفسها في
خضّم الجدل حول قضية الحجاب و الحرية الدينية داحل الجامعات الفرنسية في موقف حرج
إذ كانت المواقف المقيّمة للوضع المتأزّم متباينة إلى حدّ بعيد و إن كانت أغلب
المواقف ان لم يكن مجملها مقرّة و ملتزمة بالنّظام اللائكي في فرنسا كقانون منظّم
للمجتمع لكنها لا تذهب في التزامها بلائكيّة الدولة إلى حدود سنّ قانون خاصّ
بالجامعات لما فيه من امكانيات للطعن و التشهير بالدّين الاسلامي.
يأتي هذا الجدل في ظروف شهدت تصاعد التصريحات و ظهور الحركات
المعادية للإسلام و المسلمين في أنحاء شتى من فرنسا ، فقد أعربت حركة
"مساجد و مسلمين متضامنين" في فرنسا عن "قلقها" من النقاش
الدائر حول الحجاب الذي "أخذ منحنا خطيرا" على حدّ تعبير ناشطيها و ترى الحركة أن منع الحجاب في الجامعات
الفرنسية العلمانية قد يكون له "وقع
عنصري لأن هذا المنع يستهدف المؤمنين المنتمين فقط للديانات المميزة باللباس و
الأكل".
الصدمة الفرنسيّة
تشير
احصائيات سبر الآراء الذي قامت به مؤسسة "ايفوب" لصالح جريدة
"لوفيقارو" الفرنسية إلى أنّ 8
فرنسيين من أصل 10 فرنسيين أي ما يقارب نسبة 84 % يرفضون ظهور الحجاب الاسلامي في الجامعات الفرنسية و أنّ 63 % منهم يريدون منعه في الفضاءات العمومية أيضا و هو ما
أشارت إليه حركة "مساجد و مسلمين متضامنين" في بيان صادر عنها واصفة
اياه بالحظر الاجتماعي المحدق بالمسلمين باسم القانون و أنّ قرار منع الحجاب في
الجامعات قد يؤدي إلى ظهور موانع أخرى ضدّ المسلمين لاسيما ما تعلّق بمسألة الحياد
في الخدمات العمومية الذي تؤطره اللائكية.
وحسب الاستطلاع الذي أجراه معهد أيفوب لصالح الجريدة فان 4% فقط من الذين
شملهم يؤيدون السماح بارتداء الحجاب في
قاعات التدريس في مؤسسات التعليم العالي، بينما قال الـ18% الباقون أن لا رأي لهم
في هذه المسألة.
وأظهر الاستطلاع أن الشبان دون 35 سنة هم أكثر انفتاحا على السماح بارتداء
الحجاب من كبار السن المتقاعدين. وفي هذا السياق أبدى 86% من المتقاعدين رفضهم
للحجاب مقابل 1% فقط من الذّين أيدوا السماح بارتدائه، في حين وافق 11% من الشبان
مسألة ارتداء الحجاب فيما عارضه 63% منهم.
يأتي
هذا الجدل في الأوساط الفرنسيّة بعد الصدمة الحادة التي تلقتها فرنسا إثر اكتشافها
أنّ عددا من الفرنسيين الأصليين الذين اعتنقوا الاسلام قد التحقوا بالمجموعات
الاسلامية الجهادية في سوريا ليؤديّ ذلك إلى استياء كبير في شرائح واسعة من الشعب
الفرنسي الذّي بات يرى في الاسلام بؤرة للإرهاب
و العنف ومصدرا للكراهية و العداء.
و
يبقى الجدل حول قضية الحجاب في الدولة العلمانية متواصلا في انتظار صدور تقرير
مرصد اللائكية للبتّ في هذه القضية الشائكة التي ما انفكت تستولي على اهتمام
الفرنسيين من سياسيين و مثقفين و مواطنين عاديين
إذ ينتظر أن يتمكنّ أصحاب القرار في فرنسا في ضوء ما سيأتي به التقرير من
بلورة سياسة جديدة تنظّم تطبيق قوانين النّظام اللائكي في الجامعات و في غيرها من
الفضاءات الاجتماعية و الاقتصاديّة العمومية الأخرى فهل ستتمكن الدولة العلمانية
الفرنسية من فرض هيمنتها على تمظهر دينيّ ما ينفك يراوغ كلّ القوانين الصارمة بحثا
عن ضوء أخضر لمريديه ؟
سميّة
بالرجب
تونس
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire