يشهد
العالم اليوم حركة مذهلة لهجرة الباحثين الشبان خاصّة من العالم النامي إلى عدد من
الدول المتقدّمة التي مثلت منذ الحرب العالمية الثانية و ما بعدها قبلة للباحثين
أو لنقل مغناطيسا لا يجذب إليه إلاّ ما ندر من الأدمغة و ما عزّ من العلماء و
الباحثين في مختلف المجالات لعلّ من أبرزها علم الذرة و الطبّ و التكنولوجيا .
و في البحث عن
أسباب الهجرة المكثفة للعلماء و الباحثين ما يدعو إلى التساؤل حول أهمية العامل
الماديّ و النفسيّ في جذب دول دون دول أخرى لكفاءات هامّة في مجال البحث العلمي كالولايات
المتحدّة مثلا التي خطت شوطا هامّا في استقطاب عدد هامّ من الباحثين الشباب و
دمجهم في نمط الحياة الأمريكي الذي يستوعب الاختلاف و التعدّد أكثر من أيّ مجتمع
في العالم حسب ما تبرزه بعض الدراسات في مجال الانتروبولوجيا .
و أمام أهميّة
روافد العلم في عالمنا اليوم الذي يشهد تنافسا واضحا على كلّ المستويات فإنّ الدول
الأكثر انفتاحا على العالم تعتبر من الدول الأكثر استقبالا للباحثين الشبان فالباحثون
الأجانب حسب بعض المحللين لحركة الهجرة العالمية للأدمغة هم الأكثر اثراء للمختبر
الذي يشتغلون به و هم أيضا الاقدر على تقديم الاضافة الثقافية و إثراء العلوم
بالدولة التي يهاجرون إليها لغاية البحث.
و قد اكتشفت
الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا أنّ استقطاب الباحثين يساعد في البان على
الاستفادة من المواهب العالمية في مسألة التعويض عن جوانب الضعف و القصور في نظام
تدريس العلوم بالولايات المتحدّة .
و في ظلّ التنافس بين الدول في مسألة استقطاب
العلماء و الباحثين خاصّة من الدّول النامية يبدو أ،ّ الصورة العالمية للعلم و
آفاق مختلف البلدان التي تسعى إلى تعزيز ترسانتها البحثية و اثبات قوتها العلمية
أو الحفاظ على معدّل معيّن من التقدّم العلمي قد باتت في خطر نظرا إلى عمليات
استقطاب مكثفة للولايات المتحدّة الامريكية التي فتحت باب التعايش بين مختلف
الجنسيات على أرضها على مصرعيه إذ تسجّل بعض الاحصائيات أنّ نسبة 80 %
من العلماء في العالم عادة ما ينتقلون إلى العمل
و البحث في الدول المتقدّمة و خاصّة منها الولايات المتحدة الأمريكية حسب دراسة
أجراها بروس واينبرج سنة 2010 بجامعة ولاية أوهايو في كولومبس .
ووفقا لتصريحات بينود
خادريا ، الخبير الاقتصادي بجامعة جواهر لال نهرو بنيودلهي الهندية فإنّ الهند قد خسرت عددا كبيرا من باحثيها و
علماءها في مختلف المجالات مؤكّدا على أنّ الأكثر ذكاء يهاجرون إلى الدول المتقدمة
و لا يعودون و هذا ما يدعونا إلى استنتاج هامّ و هو أنّ العلم قد اصبح فضاء
للمزايدة و المناقصة مما يجعله بضاعة تباع في السوق العالمية التي غالبا ما يسيطر
عليها الجشع الكبير للدّول المتقدّمة .
فلدى تتبع حركة
الوافدين و المغادرين كثيرا ما يتمّ الخلط بين مصطلح الهجرة و مصطلح الحراك أي بين
التوطين و الاستقرار النهائي للباحثين و الاستقرار لمدّة وجيزة أي ما يعرف
بالزيارات القصيرة التي تتراوح بين ستّة أشهر و خمس سنوات بما يتيح للعلماء
الوافدين من مختلف أصقاع الأرض الفرصة لبناء شبكة علاقات قويّة و تركيز
استراتيجيات بحث متينة دون الاستقرار فعليا في الدول التي قاموا بزيارتها لمدّة
قصيرة أو طويلة نسبيا.
و في رصد لأهمّ
البيانات التي قامت بعض المجلات المتخصصة بدراستها و تحليلها تظهر الأرقام وجود
فوارق شاسعة بين البلدان المستقطبة للباحثين الشبان و العلماء ذوي الاصول الأجنبية
إذ تتصدّر الولايات المتحدّة قائمة الدول المستقطبة للعلماء ذوي الجنسيات المختلفة
و الاصول المتباينة في الوقت الذي تسجّل فيه دولا أخرى على غرار كندا و سويسرا و
أستراليا نسبا اضافية من الباحثين الأجانب الوافدين عليها.
و تستضيف سويسرا
على وجه الخصوص حصة كبرى من الأجانب في أوروبا تصل حسب بعض الدراسات إلى 57 % في حين
تستضيف الهند التي تسجل هجرة مكثفة لعلمائها باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية و
بريطانيا أقلّ نسبة من العلماء الأجانب تليها كلّ من اليابان و ايطاليا .
و من بين الأسباب
الأكثر تأثيرا في عملية تنقل العلماء نلاحظا حضورا كبيرا لعامل المرحلة
الوظيفية إذ تبرز دراسة للباحثة كيارا
فرانزوني من جامعة ميلانو بوليتكنيك بايطاليا أنّ الباحثين في مرحلة ما بعد
الدكتوراه هم أساسا من الأجانب و تبرز الدراسة التي أجرتها الباحثة الايطالية أنّ
61 %
من الباحثين بعد الدكتوراه قد نشؤوا في الخارج و استقروا بالولايات المتحدة
الامريكية مقابل نسبة 35 % من الاساتذة المساعدين أو الأساتذة المشاركين .
و قد استأنست
الدول المتقدّمة في عملية جذب العلماء للاستقرار نهائيا بها إلى دعم الحوافز و
المغريات المادية كسياسات ناجعة لثني العلماء الوافدين عن العودة إلى بلدانهم
الأصلية و من أبرز العوامل الأكثر تأثيرا في العالم نجد مسألة تحسين الوضع المهنيّ
و الادماج في فرق الأحاث المتميزة في حين تأتي الأسباب الشخصية و العائلية في درجة
متدنية في قائمة الاسباب التي تجعل من بقاء العالم بالدولة المستضيفة واقعا
حتميّا.
و قد لاحظ الخبراء
الاقتصاديون في الفترة الأخيرة من اشتداد الحراك و هجرة الأدمغة نحو العالم
المتقدّم أنّ البلاد التي تزداد ثروتها عادة ما تكون من أكبر المستقطبين للعلماء و
الباحثين و لا تمثل الحوافز المادية للباحثين السبب الوحيد للبقاء في الدول
المستضيفة إذ تمثل المرونة و الديناميكية التي تتيح التنافس للحصول على التمويل
للابحاث سببا وجيها لبقاء الباحثين الذين يعانون في بلدانهم عادة من بيروقراطية
متزايدة و نظام متحجر جامد يحبط الباحثين و يحطّ من عزائمهم لتطوير معارفهم و
انجاز بحوثهم و خاصة منها المكلفة.
الصين نموذجا
إلى أيّ مدى يمكن
للدولة أو الامة المؤمنة بأهميّة العلم و العلماء أن تبقى مسيطرة على المواهب
الأجنبية من الباحثين و العلماء الوافدين إليها ؟
سؤال يطرجه
الخبراء في السياسات العلمية خاصة في الولايات المتحدّة الأمريكية و قد لوحظ مؤخرا
تجمع هامّ لطلاب الدكتوراه الصينيين في الولايات المتحدة إذ يبرز بحث من بحوث الخبير الاقتصادي مايك
فن الخبير بمعهد أوك ريدج « للعلوم و التعليم بولاية تنيسي أنّ معظم
الطلاب الصينيين سيستقرون في الولايات المتحدة و قد وجد مايك فن أنّ نسبة
89 %الباحثين الصينيين الذين تحصلوا على
الدكتوراه سنة 2004 ما يزالون مستقرين في الولايات المتحدة و يعدّ ارتفاع الاغراءات المادية و ارتفاع
الرواتب من أهمّ العوامل التي تجذب العلماء الصينيين للبقاء في الولايات المتحدة
رغم ما تسجلّه الصين من صعود ملحوظ على المستوى الاقتصادي و تطوّر على مستوى
البنية التحتية .
و تظهر بيانات
الكتاب الاحصائي السنوي الصيني ازديادا طفيفا في معدّلات عودة الطلاب الصينيين من
الخارج على مدى السنوات القليلة الماضية أنّه لا يوجد أي تراجع في معدلات بقاء
الباحثين الصينيين في الولايات المتحدّة فيما ارتفعت نسبة الباحثين المستقرين بها
خلال العقد الماضي إذ تبقى المغريات التي تقدّمها الصين لباحثيها ضعيفة جدا رغم
أنّ هناك سبر آراء للباحثين الصينيين في مختلف المجالات الذين يفضلون العودة إلى
الصين بحلول سنة 2020 خاصة منهم الباحثين
في مجال العلوم البيولوجية و الفيزيائية.
و نظرا لاستفادة
الدول المتقدّمة خاصة كدول أوروبا الغربية و أمريكا الشمالية و الولايات المتحدة
الأمريكية من الكفاءات العلمية للدول النامية التي تعجز عن توفير الظروف الملائمة
لتمويل البحوث و تقديم الحضوة للباحثين و العلماء فإنّ الحديث عن استنزاف الأدمغة
أصبح عنوانا بغيضا لتنقل العلماء بين الدول المختلفة ليصبح الحديث عن تجوّل
الأدمغة أو الأدمغة الرحالّة تلطيفا مقبولا لكلمة استنزاف أو استقطاب الأدمغة و
ذلك لوجود نسبة كبرى من العلماء الذين يغيرون على امتداد بحوثهم وجهات الاستقرار
بين الدول المختلفة المستضيفة للباحثين ، إذ يتوقع أن يحدث تراجع نسبيّ في السنوات
القادمة في عدد الباحثين المستقرين في الولايات المتحدة الأمريكية كما هو الحال
بالنسبة إلى المملكة المتحدة و ذلك لتوفر أرضية مرنة للتفاعل مع العالم العلمي
المتعولم .
و تعتبر
التكنولوجيات الحديثة و خاصة الشبكة العنكبوتية من أهمّ العوامل المساعدة على ربط
العلاقات بين الباحثين و المشرفين على المخابر و وحدات البحث في البلدان المستضيفة
و خاصة عملية تسهيل العمل مع المتعاونين الدوليين، أمّا بالنسبة إلى العالم العربي
فتعتبر الدول العربية من الدول المغذية للبنية التحتية البحثية في الدول المتقدمة
فيما يبقى البحث في هذه الدول ضعيفا ان لم نقل عديم الجدوى ، فمتى تتفطن الدول
العربية تلك التي تنفق المال الكثير على تكوين أبائها إلى أهمية البحث العلمي و
أهمية توظيفه في تحقيق الثروة و تطوير الاقتصاد و المجتمع على حدّ السواء ؟.
___________________________________________________
ملاحظة : استفدت من تحقيق قامت به مجلة "nature" باللغة العربية
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire