vendredi 13 juin 2014

ثورة ثقافيّة على خشبة المسرح التونسي


ما أشبه اليوم بالأمس !
* المسرح * و في كتب التاريخ قيل عنه إنّه سليل الاحتفالات الدينية و الاحتفاء بطقوس التعبّد البائدة زمن الاله أوزوريس، فنّ عرفته العهود السابقة في أبهى تجليات الابداع الفكريّ ليصل ذروته في تجسيد الدراما الاغريقية و يبلغ أوجه في القرن الخامس قبل الميلاد على ركح الحضارة في اليونان قادما إلى العصور الحديثة متقلبا بين عصر الانوار والتجارب الغربية المختلفة متسرّبا إلى الروح العربيّة ومتغلغلا في تجسيد مآسي البشر  لينوبهم في بثّ همومهم و البوح بخبايا نفوسهم في الحبّ والحرب والثورة بكلّ ألوانها وتفاصيلها .

وهاهو اليوم في تونس و بعد رحلة كفاح طويلة عايشها عشاقه ليبقى فتيله منيرا في بلادنا يحمل في ثناياه أوجاع المواطن التونسيّ و يضع اصبعه الهلاميّ على مواضع الدّاء الثوريّ، فمنه ما كان وقتيا سياسيّا أو ايديولوجيّا ومنه ما كان مزمنا أو لنقل مرضا اجتماعيّا أو ثقافيا عضالا ومن روّاده اليوم بعيد الثورة من إذا شهد شيئا من المسرح التونسيّ تنهدّ في سرّه وقال : * ما اشبه اليوم بالأمس !*.


أبو الفنون التونسيّ و تقلبات التاريخ 

أبو الفنون و أوّلها لقب يطلقه كلّ من خبر المسرح أي تلك الوسيلة الوحيدة لتجسيد حريّة التعبير الفنيّ بعد حلبات المصارعة و منافسات قصب السبق منذ العهود الغابرة زمن الإغريق و الرومان، ليتقلب المسرح في صيغه المتباينة بين الحضارات المختلفة و بعد صولات و جولات في الفضاءات الفنيّة الغربيّة في أوروبا و غيرها من الدول.
 إذ تفرعت أشكاله  وأجناسه  ليصل إلى العالم العربي متثاقل الخطى حاملا معه جمالية الحسّ الابداعيّ و رونق التحرّر من قيود الذوات المنكسرة مصدّرا نور الانفتاح و التحضّر إلى العقول المتصلبّة ليرتطم بعامل التديّن حينا و يصطدم بواقع المجتمعات الشرقيّة المحافظة أحيانا ،إذ أعاد التونسيون اكتشاف المسرح عن طريق الفرق الايطالية و الفرنسية التي كانت تفد على البلاد لتقدّم عروضا باللغات اللاتينية- أي قبل انتصاب الحماية الفرنسية - سنة 1826 حسب بعض المؤرخين التونسيين- حاملة روح الثورة الفرنسيّة و الانعتاق الاوروبيّ من واقع التحجرّ باسم الكنيسة و تحت مسمّى ظلّ الله في الأرض .
 أمّا سنة 1908 فهي تاريخ قدوم الفرق المصريّة التي توافدت على تونس لتقدّم عروضا باللغة العربيّة في بلادنا لعلّ من أهمّها فرقة الفنان المعروف سليمان القرداحي الذّي أثار بمسرحياته اهتمام الشباب التونسيّ بالفنّ الرابع في زمن كانت محاولات فرنسة البلاد قائمة اي زمن الحماية الفرنسية و تقول بعض المصادر التاريخية أنّ قدوم هذه الفرق المصريّة كانت عاملا أساسيّا في تأسيس أوّل فرقة مسرحيّة تونسيّة مصريّة عرفت باسم * الجوق المصري التونسي* و ذلك بعد وفاة الفنان سليمان القرداحي بمدينة تونس و مكوث أعضاء فرقته لمدّة طويلة نسبيا في العاصمة التونسية .

و كان حضور العنصر النسائيّ في فرقة القرداحي و بقاء الممثلات بعد وفاته ثورة مسرحيّة في تونس ودافعا لتقديم عروض مشتركة و متكاملة من حيث الحضور الفعلي للنساء لتعبّر إذ تشير بعض الدراسات حول الفنّ الرابع في العالم العربي  إلى أنّ العنصر النسائي في المسرح العربي كان مغيّبا و ذلك لضرورات ثقافيّة و قيود اجتماعيّة فلم يكن يسمح للمرأة في تلك الحقبة التاريخية بتجسيد أدوار على الركح أو مواجهة الجمهور أمّا في مصر فكان الأمر أكثر ليونة نسبيا و ذلك لامتهان فنانات مسيحيات للفنّ فلم يكن المجتمع يرفض ما يقدّمنه لاعتبارات عقائديّة صرفة كونهن نساء غير محجبات و كانت أوّل فنانة مسلمة تقوم بالتمثيل في مصر هي الفنانة منيرة المهديّة و يقابلها في تونس المطربتان زبيدة الدزيرية و عائشة الصغيرة .

و رغم كثرة المسارح التّي خلفتها الحضارة القرطاجنية و الرومانية و البيزنطية أي تلك الشامخة في قرطاج و جيكتيس و بلاريجيا و الجم و دقة  في ربوع بلادنا  إلاّ أنّ تونس العربيّة الرازحة تحت براثن الاستعمار الفرنسيّ آنذاك لم تشهد اطلالة مسرحها التونسي إلاّ بعد سنة 1912 التي شهدت تكوين أوّل فرقة مسرحية تونسية صميمة ضمن جمعيّة الشهامة العربيّة التّي جاءت خلفا لتجربة تونسية قيمة في تكوين مسرح تونسيّ صميم أي تكوين جمعيّة * الآداب* التي كان يرأسها آنذاك المناضل حسن قلاتي وكان كاتبها العام باللغة العربيّة المناضل عبد العزيز الثعالبي و الصادق الزمرلي باللغة الفرنسية فانطلق المسرح التونسيّ بذلك ليرسم ملامحه و يجدّد روحه القديمة .

المسرح التونسي الصميم
يقول المؤرخون أنّ سنة 1913 شهدت عرض أوّل مسرحيّة بملامح تونسيّة وهي مسرحية *الانتقام* التّي ألفها آنذاك الشيخ مناشو و تقول بعض المصادر الأخرى أنّ أوّل من كتب مسرحيّة بنصّ تونسيّ هو محمّد الجعايبي الذّي ألف مسرحية عن السلطان عبد الحميد الثاني الذّي عزل عن الحكم و عنونت المسرحية ب* السلطان بين جدران يلدز*و كأنّ عروض المسرح التونسيّ تخاطب حاضرا يعيشه التونسيون اليوم بين مدّ و جزر، فكانت جلّ المسرحيات التّي قدّمت في بداية القرن العشرين باللغة العربيّة الفصحى إمّا تأليفا أو ترجمة أو اقتباسا و كانت مستوحاة من البطولات العربيّة القديمة وكانت الأعلام العربيّة القديمة في الدّول العربيّة والاسلاميّة من حكّام عرفتهم البلاد التونسيّة تحظى بتركيز الكتاب و المؤلفين في انتاج نصوصهم المسرحيّة أي ما يعرف اليوم بالمسرح الكلاسيكي.
و قد تكاثر عدد الفرق المسرحيّة في تونس في العشرينات و بدأت بوادر مزاحمة اليهود و الفرنسيين و الإيطاليين المسيطرين على الاستثمار في المسرح و السينما تظهر بقوّة و نخصّ يالذّكر تجربة علي بن كاملة الذّي أسس قاعة للعرض المسرحي بالعاصمة و فرقة مسرحيّة ضمّت كلاّ من حبيبة مسيكة والحبيب المانع و غيرهم قبل أن تباع هذه القاعة إلى علي بن سلامة صاحب مقهى *تحت السور* المكان الذّي احتضن مبدعين تونسيين أجلاّء كانت ابداعاتهم تؤسسّ لثورة شعب على كلّ مظاهر الظلم و الحيف و الاستبداد و تنادي بالتحرّر و الانعتاق من كلّ مظاهر التخلّف و الانحطاط و التمسّك بالكرامة و الحرية التونسيتين .

و كان تزايد اهتمام التونسيين بالفنّ الرابع في الثلاثينات قد مهدّ الطريق أمام انتعاشة نوعيّة للمسرح التونسي و تأسيس هياكله الوطنيّة بعد الاستقلال و من أبرز الأسماء التي ظهرت على خشبة المسرح التونسي قبل الاستقلال يذكر بعض الكتّاب ظهورا مميزا للهادي الأرناؤوط ومحمد عبد العزيز العقربي و خليفة الاسطنبولي.
أمّا ما بعد الاستقلال فكانت الفرقة البلدية بتونس من أهمّ الفرق التي تميزت بانتجاها المسرحيّ إذ ضمت هذه الفرقة أسماء توجها المسرح التونسي المعاصر مثل علي بن عياد فقد أحدث هذا الفنان ثورة في المسرح التونسيّ ليقدّم عددا من المسرحيات الهامّة لعلّ من أبرزها : مسرحية عطيل و مدرسة النساء و مراد الثالث و صاحب الحمار و مسرحية يارما.
 و في فترة الستينات دعا الرئيس الحبيب بورقيبة في خطاب له إلى الاهتمام بالمسرح لما له من دور في توعية الشعب و كانت البداية ببعث المسرح في المدارس الابتدائيّة و الثانويّة ثمّ ظهوره في الجامعات التونسيّة لتبرز فيما بعد الفرق الجهويّة المحترفة في صفاقس و سوسة و الكاف و قفصة لتواصل الأسماء الفنية التّونسية في مجال المسرح رحلتها الابداعيّة في السبعينات و الثمانينات  التي شهدت ظهور مؤسسة عموميّة عريقة هي المسرح الوطني التونسي الّذي تأسس بمقتضى القانون عدد 118 في سنة 1983 وصولا إلى التسعينات و الألفية الثانية و في كلّ عقد كانت تظهر زهور مسرحيّة شابّة مؤمنة بقوّة المسرح و سحره و قدرته على تجسيد هموم النّاس و بثّ مظالمهم و إعادة تنشيط الذاكرة الوطنية وتوعية الشعب و تركيز مبادئ الانسانية و الحرية و قيم العدل و التسامح .
أمّا الثورة التونسية / 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 / التي جاءت لتهدم أسوار الحكم البوليسي في تونس و تقضّ مضجع حرّاس التضييق على الحريات و خاصة منها حريّة التعبير أي رئة المسرح الأساسيّة فكانت ثورة الحريّة و الكرامة  فاتحة جديدة لعودة صادمة للمسرح التونسي.
الثورة و ما بعدها في عيون المسرح
     كثيرون هم من يرون في الثورة الثقافية مولودا شرعيا للثورة الشعبية و ذلك نتيجة افرازات تاريخية لتجارب ثورية سابقة كالثورة الفرنسية مثلا أو ثورات بلدان أوروبا الشرقية أو ثورات أمريكا اللاتينية أو غيرها من الثورات في العالم ولكنّ موعد قدوم هذا المولود الثقافيّ في تونس كسليل شرعيّ للثورة الشعبية التّي نادت بإسقاط صنم الديكتاتوريّة في تونس جاء متأخّرا نوعا ما إذ لم يكن قطاع الثقافة حسب عديد النقاد التونسيين و العرب -الذّين شهدوا أيضا ثورات في بلدانهم – بذاك القطاع الفاعل في الثورة إذ كانت قوى الشعوب تدفع باتجّاه التركيز على الجوانب الاقتصادية و الاجتماعيّة المتدهورة في تلك الدّول العربيّة و أوّلها تونس لذلك لم تكن الأعمال الفنيّة سريعة التجاوب مع ما يجري من أحداث متسارعة  وحراك سياسيّ و حتّى ما كان يقدّم من انتاجات فنيّة على المستوى الموسيقي و الشعري لم يكن بارزا إلى حدّ كبير.

 فالأعمال المسرحيّة التّي قدّمت بعد الثورة لم تكن تناقش بالشكل المطلوب على الأقلّ المشاكل العميقة للتونسيّ فبعضها ذهب إلى البحث عن الاضحاك و التسلية و بعضها ذهب إلى تقديم انتقادات في شكل أحكام ذاتيّة أو في قوالب جاهزة و بعضها الآخر كان عبارة عن عروض الممثّل الفرد أي /الوان مان شو/ ليضيع في تقديمها رونق المسرح بكلّ تفاصيله القديمة من شخوص تتحرّك على الركح مجتمعة لتجسّد لوحة مسرحيّة تتناغم فيها ملامح الوجوه و تعبيراتها مع سرعة الحركة أو تباطؤها مع المنطوق من النصّ بأصوات حقيقيّة و نغمات و نبرات مميّزة لأصحابها من الممثلين إضافة إلى ما تقوم به الإنارة من دور في خلق البعد الجماليّ للمشهد أو لنقل الظلّ الجميل لأصحابه.

و بالتّركيز على النّصوص المسرحيّة فإنّ المعالجة الحقيقيّة لواقع ما على خشبة المسرح تتطلبّ من الكاتب معايشة حقيقيّة و موضوعيّة لهموم شعبيّة أو ظروف معينّة للثورة و ما بعدها خاصّة في خضم تجاذبات سياسيّة واختلافات فكريّة جعلت من المواطن التونسيّ موضوعا مهمّا للبحث فليس المسرح في نظر محبيّه سوى مرآة تعكس آلاما دفينة يعجزون عن التصريح بها أو آلام معلن عنها لكنّها تضيع في زمرة الحديث عن مصالح ضيقة لرجال الأعمال أو السياسيين أو التابعين ممن تعريهم رسالة المسرح فتكشف وجها غائبا للرأسمالية أو أجندة خفيّة من عوالم السياسة أو واقعا مرّا من حالة التشرذم الفكريّ أو الازدواجية المرعبة في شخص الحاكم أو استقالة صريحة للمسؤول من واقع يدير خيوطه .

*فالمسرح الثوريّ* -أو هكذا عنّ لأحدهم أن يصفه - هو ما نراه اليوم في مسرحنا الوطنيّ التونسيّ وفي عروضه الجديدة، إذ بدأت عجلة الابداع تدور و بدأت مخيلّة المبدعين المسرحيين تتجه إلى مواقع  في المجتمع التونسي الرازح تحت هموم ثورته *المسروقة* فالمتابع لعدد من العروض اليّوم يمكن أن يستنتج أنّ الثورة الثقافية تأخرّت لكنّها لم تكن سوى ثورة نائمة تستيقظ الآن شيئا فشيئا لترسم ملامح جديدة للإبداع التونسيّ و تتوّج في زمن تمزّق الشرنقة الفكريّة انتاجا مسرحيّا هو خلاصة احساس عميق بهموم شعب ثائر.

* تسونامي * الرجّة بين الأمل و اليأس

إنّ المشاهد لعرض من عروض مسرحيّة تسونامي مثلا لفاضل الجعايبي و جليلة بكّار -و هما سليلا مسرح السبعينات و مؤسسيّ المسرح الجديد بتونس سنة 1976 – يمكن أن يتفطّن إلى عمق التناول الذّي خطته شخوص المسرحيّة و أصوات قارئي النصّوص إذ يتطرّق النصّ المسرحيّ المتقن لكاتبته جليلة بكّار إلى الظروف التّي عاشها المواطن التونسيّ ما بعد الحراك السياسيّ الذّي أطلقت عليه وسائل الاعلام في العالم  اسم الربيع العربيّ لتناقش الكاتبة في نصّها المسرحيّ احتقان الشارع التونسيّ و سخطه على الظلم و الاستبداد و تواصل الخوف من الآتي الذّي جسدته الوجوه الشابّة في المسرحية، شخوص ممزّقة بين الاصطفاف في صفّ الحلم الذّي انبعث من رحم الثورة ليبثّ آمالا عريضة في نفوس المواطنين  بحريّة وعيش كريم أو الاصطفاف في صفّ الاستبداد الجديد باسم الدّين أو هكذا يمكن أن تصل المعاني المجسدّة على الركح إلى المشاهد .
تسونامي هو تلك الرجّة التّي أعادت إلى التونسيّ و العربيّ بصفة عامّة وعيه بضرورة الخروج من النفق المظلم و بضرورة البحث عن مرافئ آمنة للأجيال القادمة من التونسيين بتكريس الحريّة و الكرامة و تحكيم العقل في فهم الفضاء الزمنيّ للأنا،و تركزّ المسرحيّة على اللغة السياسيّة في وسائل الإعلام و تبوّب لدور وسائل التواصل الاجتماعيّة في كسر حواجز الصمت أمام واقع انهيار النظام البائد و خروج الفرد التونسيّ من علبة القمع المحكمة الاغلاق .

تناقش المسرحية أيضا واقع ترحيل الشباب إلى سوريا و تسلّط الضوء على عمليات الدمغجة و دور السياسيين و المسؤولين في الترويج لصناعة الجهاديين و القنابل الموقوتة للإرهاب كاشفة عن صراعات شتى لعلّ من أهمّها صراع ما هو ديني و تصادمه مع ما هو حداثيّ و حقوقيّ و صراع المرأة مع ثقافة الغمر و الحجب التّي ظهرت بقوّة بعد الثورة إضافة إلى صراع الأنا مع عامل القيم و المبادئ و صراع الحبّ مع عقليّة التشدّد و التزمتّ .
و تدفع هذه  المسرحيّة المشاهد إلى طرح عديد الأسئلة حول المستقبل و كأنّها تنظّر في تفاعل الشخصيّة الرئيسيّة للمسرحيّة *حياة* مع الأحداث لسياسة جديدة لتعامل التونسيّ مع كلّ ما يدور حوله من أحداث سياسية و ثقافية و ايديولوجيّة و اقتصاديّة بشكل عقلانيّ و مواجهته لعوامل ابتزاز داخليّة وخارجيّة تزيد في تأزيم الواقع و دفعه نحو المجهول إذ لامست مسرحيّة تسونامي لبّ القضايا التّي عاشها و يعيشها التونسيّ بشكل تضافرت فيه كلّ العوامل لتبني عملا متوازنا و جادّا هو قلب المسرح الحديث.

الرهيب ابن الأغلب و عودة المسرح الكلاسيكي

رغم طغيان عروض *الوان مان شو* على قاعات العرض مؤخرا إلاّ أنّ المسرح الكلاسيكيّ قد سجّل عودة نوعيّة تمثلت في عرض مسرحيّة ذات طابع تاريخيّ على خشبة  المسرح الوطني التونسي حملت عنوان * الرهيب بن الأغلب* للمخرج محمد  منير العرقي الذّي حاكى في مسرحيته التاريخية واقعا تونسيا راهنا من خلال استحضار قصّة الحاكم الأغلبي «إبراهيم الثاني»  الذّي نسج المؤلف  عبد القادر اللطيفي خيوط نصها.
إذ تجسّد شخصيّة إبراهيم الثاني  فترة  هامة من تاريخ تونس و هي تلك الحقبة الدموية لحكم  أمير ديكتاتور إذ أسّس هذا الأمير لظهور وجه من أبشع وجوه الاستبداد في تاريخ البلاد التونسيّة متشبّثا بكرسي الحكم و كأنّ بهذه الشخصيّة تذكّرنا بما عاشه التونسيون زمن الاستبداد و الفساد أي زمن المخلوع.
 و تلخّص المسرحية المزدانة بجمال الأثواب و حسن الحضور الركحي لثلة من المسرحيين و الممثلين التونسيين مرحلة من تاريخ تونس الدموي طبعها حاكم من الأغالبة تصفه كتب التاريخ بالحاكم المختلّ الفاقد للعقل و الأمير الرهيب الذي حكم افريقيّة من سنة 875م إلى 902 سنة م ,إذ يجسّد المشهد الأوّل من المسرحية ليلة وفاة أمير افريقية و شقيق ابراهيم الثاني أبو الغرانيق إذ جاءت زمرة من أجلاء القيروان وسادتها يطلبون إلى الأمير ابراهيم الثاني أن يخلف أخاه في الحكم وذلك لما أحاط بهم من قلّة عدله و سوء تصرّفه في أموال العباد ولكن ابراهيم الثاني  رفض في البداية متعللا بمبايعة ابن أخيه، و تحت عامل الضغط من خاصّة القيروان الذّين ادعوا أنهم نوّاب الشعب و حاملو رسالته إليه قبل ابراهيم الثاني الإمارة على مضض .

و يأتي المشهد الموالي للمسرحيّة مخالفا تماما لتوقعات المشاهد إذ يتحوّل الأمير الذّي عرف عنه العدل إلى حاكم ظالم يبطش بكلّ من يعارض حكمه فمع فجر أول يوم يتولى فيه الإمارة سفك الأمير ابن الأغلب ابراهيم الثاني دماء كلّ من عارض بيعته من موالي ابن أخيه وقتل من أهله و من حاشيته الكثير و هو ما قاد الرعيّة إلى ثورة الدراهم والجياع بعد أن لحق بها من الجوع و كساد التجارة ما لحق و بعد أن شهدت من حاكم جبان يرفض أن يواجه رعيته خيفة أن ترجمه بالحجارة ما شهدت من افساد للمال و اسراف في بناء القصور. و هو ما قد يعيد إلى ذهن المشاهد التونسي صور شخصيات سياسيّة عدة وجدت قبل الثورة و بعدها و يذكّره ببعض التفاصيل القاسية التّي يعيشها في واقعه الراهن.

و كأنّ بالمشاهد لهذه المسرحية يقف أمام مفترق طرق أي أمام الحاضر و الماضي و المستقبل و كأنّ بالمسرحية تستعيد ما سلف من شخوص الماضي الفاعلة في التاريخ التونسيّ لترسم ملامح شخوص جديدة فاعلة في الحاضر التونسيّ بكلّ تجاذباته إذ تحاكي المسرحيّة الكلاسيكية الواقع الراهن في عدد من الجوانب لعلّ من أبرزها تسلّط الدولة على الرعيّة تحت عنوان الهيبة و التفرّد بالأمر و النهي إضافة إلى تقديم مصلحة الخاصّة على مصلحة العامّة و تهميش النّاس و تجويعهم و فرض الضرائب و الإتاوة و إثقال كاهل المواطن بالديون.

 و تطرح المسرحية مسألة العامل الدينيّ و تركّز على حادثة  تنصيب رجل من أهل الذّمة أمينا على خزائن المسلمين و هو ما يدفع بنا إلى البحث في واقعنا الراهن عن الصورة المقابلة المتجسّدة في الأقليات الدينية الموجودة في تونس و ما لحق بها من خطاب تمييز ظهر ضدّها في مظاهرات الاسلاميين و غيرها بعد الثورة.
و تسلط المسرحيّة الأضواء على المرأة التونسيّة في جانب منها فتضعها في موضعين متناقضين فالأوّل هو موضع المرأة القويّة الناصحة و الراجحة العقل و المتمثلة في دور أمّ الأمير ابراهيم ابن الأغلب و هو ما يحيل المشاهد على صورة المرأة التونسية الحقوقية و الثائرة على الظلم و الناصحة و المعينة و الحازمة و موضع ثان و هو ذاك المتمثل في دور المرأة الخانعة و المرأة الجسد و هو ما يدعو المشاهد إلى استحضار الصورة النمطية للمرأة في العالم العربي و الاسلامي من خلال تقييم دور تفاحة زوجة الأمير و دور جاريته وهما الصورتان اللتان ظهرتا بعد الثورة بشكل واضح في صراع بين خطاب الحداثة و خطاب العودة إلى الوراء.


و يفتح مشهد المشعوذ المغربي في المسرحية باب التفكير أمام المشاهد لنسج خيوط العلاقة بين القمع و الفقر و الاستبداد و الارضية السانحة للاستغفال و التدجيل و التحيّل و تتوّج المسرحيّة واقع الصراع في استحضار بوادر ظهور التحريض على دولة الأغالبة و ظهور الدعاة إلى حكم الفاطميين و يعيد هذا العمل المسرحي الحديث الاعتبار إلى اللغة العربية الفصحى باتخاذها لغة للنصّ المسرحي بعد هيمنة ملحوظة للهجة العاميّة على أغلب العروض المسرحيّة ما بعد الثورة.  



و تجسّد المسرحيات التونسية المحاكية للواقع التونسيّ ما بعد الثورة طموح المسرحيين وتشبثهم بروح الابداع  و تأكيدهم على دور المسرح في علاج القضايا الوطنية و الشعبية الكبرى و مدّنا بأعمال تتماشى و واقعنا الراهن المعيش و تحاكي هموم المواطن التونسيّ وأوجاعه و هو ما يظهر في تصريحات عديد المخرجين و المؤلفين و الممثلين في وسائل الاعلام إذ استفاق هؤلاء على واقع التحرّر من قيود الاستبداد و القمع المشطّ لحريّة التعبير لينطلقوا إلى مهامهم الكبرى في النقد و التحليل مرفرفين  بأجنحة جديدة للإبداع ليلتحقوا بركب الثورة الثقافيّة المتأخرّ.
سميّة بالرّجب