mercredi 12 novembre 2014

رئيس التونسيين ..سيزيف القرن الواحد والعشرين !

رئيس التونسيين في عيون الجامعيين :

رئيس الجمهورية هو رئيس الدّولة ورمز وحدتها يضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور، هذا ما ورد في الفصل 71 من الباب الرابع الخاص بالسلطة التنفيذيّة في الدستور التونسي المصادق عليه سنة 2013 ولكنّ هذا التعريف لا يعدو أن يكون مجرّد هيكل خارجيّ أمام لبّ منشود وصورة مرغوبة يبحث عنها التونسيون في رئيسهم القادم بل يمنون أنفسهم بالحصول عليها بعد الانتخابات الرئاسيّة في موفى شهر نوفمبر القادم، تسكن الصورة المرتقبة مخيلّة شرائح مختلفة من الشعب التونسيّ ولكن كيف يرى الجامعيّون رئيس الجمهورية التونسية القادم وكيف يتمثلون خصاله ومناقبه ؟.


قد يبدو السؤال الذّي طرحناه على الاساتذة الجامعيين حول تمثلاتهم للصورة التي ينشدونها لرئيس الجمهورية التونسية سؤالا بسيطا لكنّ الاجابات عنه اختلفت وتنوّعت لتفرز انطباعا بأنّ الرئيس المنشود للجمهورية التونسيّة لا يمكن أن يكون رئيسا واحدا بل مجموعة من الرؤساء إذ تبدو خصاله ومناقبه التّي تفنّن الجامعيون في ذكرها خصالا متعدّدة لا يمكن للغة المنطق أن تفترض تجمّعها في شخص واحد فقط  بل قد تحيلنا الصورة على تمثّل الرجل الخارق أو سيزيف جديد للقرن الواحد والعشرين .
الرئيس الاتصّالي البارع والمثقف المقنع
يركّز الأساتذة الجامعيّون -حسب ما حصلنا عليه من إجابات- في تمثّلهم لصورة الرئيس التونسيّ القادم على جانب من الجوانب المهمّة التّي تجعل من المسؤول محلّ ثقة مبدئيّة ثمّ دائمة لدى المواطن ألا وهو الجانب الاتّصاليّ والتواصليّ، إذ تمرّ بذهن الكثير من الجامعيين فترات تاريخية مهمّة في تشكيل ملامح العالم الحاليّ كفترة الخمسينات والستينات و السبعينات فمنهم من تحضره صورة الرئيس المصري الرّاحل : جمال عبد النّاصر بخطاباته الحماسيّة وقدرته على التجييش العاطفيّ للجماهير وشخصيته الرصينة وقد تحضر البعض الآخر صورة الرئيس الفرنسي دي غول وهو يعيد فرنسا إلى قوّتها وبأسها بخطاباته المثيرة والواثقة في الاذاعة البريطانيّة وقد لا تغيب عن الكثير من الجامعيين  صورة الرئيس التونسي الرّاحل الحبيب بورقيبة وهو يلقي خطاباته الشعبية أمام آلاف التونسيين أو في شاشات التلفاز وحركات يديه توحي بالثقة والإصرار والثبات على الموقف ورغبة جامحة في اقتلاع اعتراف الجماهير بضرورة التحوّل نحو عقلنة المشهد التونسيّ وبناء الدّولة الحديثة.
تقول الأستاذة سهى التميمي –كليّة العلوم الاقتصادية والتصرّف بتونس- جامعة تونس المنار : برأيي لا بدّ أن يكون رئيس الجمهوريّة القادم شخصا مفعما بالحماس متقدّ الوجدان، ممتلئا بالطاقة ذا ثقة عالية في النّفس، قادرا على إلقاء خطاباته بشكل متقن و سلس، أرغب أن يكون رئيس تونس القادم شخصا يجيد آليات التواصل سواء على المستوى الخطابيّ أو على مستوى الكتابة.
الأمر الذّي تشاطره الاستاذة قمر بن دانة أستاذة بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر-جامعة منوبة - التّي أسرّت إلينا من خلال إجابتها على السؤال المحوريّ لهذه الورقة قائلة : يجب أن يرسل الرئيس الجديد إشارات توحي بالتغيير و الابتعاد عن استنساخ التجارب السابقة و عن السطحية.
و بالحديث عن الابتعاد عن السطحيّة والتحلّي بالتعمّق والقدرة على قراءة الواقع وبثّ رسائل توضّح عمق القضايا الوطنيّة وتبني جسورا للتواصل بين الرئيس والشعب أفادتنا الأستاذة آمال موسى أستاذة بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار : يليق بتونس أن يكون رئيسها عقلانيا ويمتاز بالرصانة الفكرية والسياسية  والجرأة  إضافة إلى شرط توفر عنصر العبقرية كي يكون جديرا برئاسة 11 مليون نسمة.

أمّا البعض الآخر من الجامعيين فيشدّد على أهمية حضور عوامل هامّة في شخص الرئيس التونسي القادم حتّى يتمكنّ من النّجاح في مهمّة التواصل مع شعبه والنّجاح في تمثيل الشعب التونسي في الدّاخل وخاصّة في الخارج ومنهم الأستاذ عبد النّاصر الكريفي أستاذ بالمعهد العالي للعلوم البيولوجيّة التطبيقيّة بجامعة تونس المنار الذّي اعتبر مسألة الهندام والثقافة الاجتماعية والقدرة على التواصل مع وسائل الإعلام وخاصّة إجادة اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربيّة من الخصال الأساسيّة التّي يجب أن تتوفرّ في رئيس الدّولة حتّى يتمكنّ من تمثيل الشعب التونسي التمثيل الأمثل و المشرّف الذّي يليق به.
من جهته شدّد الأستاذ جلال الرويسي المقيم حاليا بسلطنة عمان وهو أستاذ بالمعهد العالي للتوثيق بجامعة منّوبة على هذه النّقاط قائلا :  يجب على رئيس الجمهورية التونسية القادم أن يكون قادرا على إدارة الحوار بين الفاعلين السياسيين حتى يملأ الحيّز الذي يشغله الآن ما يسمّى بالرباعي الرّاعي للحوار الوطني مهارات دبلوماسية تسمح له بالإشعاع الدّولي وتشريف صورة تونس في الخارج بالاضافة إلى ثقافة واسعة وإتقان الإنقليزية والفرنسية وطبعا العربيّة.
الرئيس المحايد  ومسافة الأمان السياسية 

لا يبدو أنّ التجارب السابقة للبلاد التونسيّة سواء تلك التّي كانت مع الرئيس بورقيبة ثمّ الرئيس زين العابدين بن علي أو الرئيس المؤقت محمّد المنصف المرزوقي قد عكست في أذهان التونسيين و الجامعيين بشكل خاصّ صورة الرئيس المحايد الذّي يدير شؤون البلاد بترك نفس المسافة من جميع الأحزاب السياسية دون تحيّز أوذاتية، مسافة الأمان التّي يجب أن تكون حاضرة في ذهن رئيس الدّولة القادم هي مفتاح القضية بالنسبة لكثير من الجامعيين فالحياد هي الميزة الأهمّ التي ينادي بها الكثير منهم،
يقول الأستاذ جلال الرويسي في هذا الصدد : لا بدّ أن يتحلّى رئيس الجمهورية بالحياد عن الأحزاب والتموقع على نفس المسافة من الجميع وهذا يعني استقالته من مسئولياته الحزبية حال فوزه بمنصب الرّئاسة وأن يتحلّىب الشجاعة وبعد النظر حتى يستطيع اتّخاذ القرارات المصيرية المناسبة في الوقت المناسب وأن يكون سياسيا متمرّسا ويفضّل أن يكون حاصلا على تأهيل جامعي في أحد اختصاصات الاجتماعيات أو الإنسانيات.
الأمر الذّي تؤكّده الأستاذة قمر بن دانة بقولها في نصّ اجابتها : على الرئيس المقبل أن يطمئن التونسيين والتونسيات حول المستقبل بالتزامه بتغيير المؤسسة التي يشرف عليها. كما يجب أن يكرس وحدة التونسيين و أن يدافع عن المجتمع بمختلف مكوناته، وأن يحافظ على استقرار البلاد و يعمل على تطويرها.
و يكفيه أن يركز في عمله على مؤسسة الرئاسة. إذ يجب عليه أن يعيد ثقة التونسيين في هذه المؤسسة التي لم تتغير ملامحها منذ سنة 1957و أن يزرع الأمل في مستقبلها. كما يجب أن يقضي على الصورة النمطية التي لازمتها منذ 1957أي صورة "الرئيس الملك".
يتحدّث الجامعيون هذه الأيام عن رئيس الجمهورية القادم وفي حديثهم ما يعكس توقهم إلى صورة رئيس يمثّل كلّ التونسيين وهذا ما أفادنا به الأستاذ عبد الناصر الكريفي من جامعة تونس المنار وعزّزته اجابة  الأستاذ طاهر بن يحي –كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة:
أهم الشروط في اعتقادي أن لا يكون جزءا من ماكينة النظام السابق- وأن يكون قد تربى ونشأ في بيئة ديمقراطية ،وأن يكون متوفرا على الحدّ الأدنى من النضاليّة والمعارضة لمنظومة الفساد والاستبداد.
والساحة التونسيّة تزخر بالشّخصيّات الوطنيّة والحقوقية التي نحتاج إليها أكثر من أيّ وقت مضى - ذلك أنّ المتربّصين بالثورة أو ما بقي من الثورة كثرٌ، وإمكانية الردّة والنكوص إلى الوراء واردة مثلما وقع في تجارب أخرى.
لكن في الوقت نفسه نحن في حاجة إلى رئيس ممثّل لأغلب التونسيين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم غير متحزّب حتى إن كان مرشحا من قبل حزب من الأحزاب.

صورة الرئيس الحداثي الحكيم

لم تخف الشاعرة والجامعيّة آمال موسى رغبتها في الدّفاع عن مسار التحديث في تونس مؤكّدة أنّ على الرئيس القادم أن يكون حداثيا بامتياز حتّى أنّها وصفته بحامي الحداثة في تونس قائلة : الملمح الأساسي والجوهري لرئيس الجمهورية القادم ، يتمثل في أن يكون حامي مسار التحديث التونسي أي أن يكون هاضما بشكل معمق لمقومات المشروع التحديثي ،الذي قامت عليه الدولة الوطنية إبان الاستقلال  خصوصا أنها مقومات في ارتباط وثيق مع الرأسمال الرمزي الثقافي الحضاري للمجتمع التونسي .
وإلى جانب ذلك، يبدو لي أنه من المهم  أن يتسم التواصل الايجابي مع مشروع التحديث للدولة التونسية  بنزعة نقدية تكميلية  بمعنى البناء على المنجز التحديثي  وجعل النقائص  من المضامين الأساسية لمشروعية حكم تونس.
صورة الرئيس الحداثي الديمقراطيّ لا تفارق أذهان التونسيين و الجامعيين بشكل خاصّ إذ يؤكّد الأستاذ عبد الناصر الكريفي بأنّ على الرئيس.
الرأي الذّي شاطره الأستاذ الطاهر بن يحي كلية الآداب بمنوبة -قائلا : كرسي الرئاسة يتطلب في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ بلادنا  شخصيّة تتسم بالحكمة والرصانة في اتخاذ القرارات وشخصيّة مبدئية صلبة غير قابلة للاحتواء والتدجين من قبل رموز الفساد المالي والسياسي المحلّيين والإقليميين.

وأضاف: آخر ما أفكر فيه وأنا أستحضر سقطات بعض الشخصيات السياسية هو ضرورة الانتباه والحذر عند التصريح بموقف تجاه دول شقيقة أو تجاه فئات اجتماعية معينة كالنساء أو الصحفيين.

الرصانة صفة أخرى من الصفات التّي يجب أن تتشكّل منها ملامح الرئيس القادم فبالعودة إلى عدد من شهادات الجامعيين لفت انتباهنا بحثهم المضني عن شخصيّة حكيمة ورصينة لاتفرّق بين صفوف المواطنين ولا تحمّل البلاد مالا طاقة لها به ومن بين هذه الشهادات كانت شهادة الأستاذة قمر بن دانة التّي أكّدت لنا : إن التواصل مع الشعب ليس وصفة إشهارية أو دعاية انتخابية، بل عملا دؤوبا متواصلا لفهم الحاجيات و تشخيص المشاكل و العقبات. كما يجب أن يهتم الرئيس بجميع الشرائح الاجتماعية، حيث لم يعد التونسيون و التونسيات يثقون في الوعود، بل إنهم ينتظرون إشارات تنمّ عن احترامهم.
إن عادات الوعظ، و ادعاءات تملك الحقيقة وخطابات التميز التونسي لم تعد صالحة للتونسيين. فيجب على رئيس المستقبل تقديم دلائل ملموسة تثبت أنه يدافع عن مصالح المواطنين و المواطنات كأفراد وكدولة.
الرئيس المسؤول صاحب اليد  النظيفة


مع تغوّل النّظام السابق وتفننه في اهدار المال العام أصبح للتونسيين و للجامعيين رغبة ملحّة في تشكيل صورة ناصعة لرئيس دولة يحترم عائدات الدّولة وأمانة المال العام، تقول الأستاذة سهى التميمي : من المستحسن أن نستطيع القيام بفحص شامل لجميع الشهادات العلميّة للرئيس التونسي القادم كدرجة الدكتوراه وغيرها، ولم لا يكون هناك فحص شامل لما بحوزته من ممتلكات ومراجعة للمستندات الجبائية إذ لم نعد نتحمّل قصّة الحسابات البنكية للرؤساء في سويسرا ونحوها.

في حديثنا عن المال العمومي ما يحيل على عمل مؤسسات الدّولة واحترام المواطن دافع الضرائب وهو ما يكرّس لدى الجامعيين شعورا بحتميّة ظهور رئيس مسؤول بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى فتحمّل المسؤولية حسب بعضهم هو ابتعاد عن الفوقية المبالغ فيه ونأي بالذّات أيضا عن خطابات الشعبوية والتواضع المزيّف ونحوها من ممارسات شهدها التونسيين مؤخّرا في تعاملهم مع المشهد السياسي العام والمشهد الرئاسيّ بشكل خاصّ.

تقول الأستاذة قمر بن دانة : يجب على الرئيس المقبل أن يكون أكثر انتباها للمشاكل الملموسة، وأن يحترم المؤسسات العمومية، والتقليل من الظهور، و أن يكون ضامنا لاستقلال الدولة وقادرا على التأثير على قرارات الحكومة المقبلة التي يجب أن يتعامل معها، و أن يكون على قدر المسؤولية التي أوكلت له بحثا عن التوازن المنشود.
خلاصة القول، أنتظر من الرئيس المستقبلي للجمهورية أن ينعش في الآن ذاته وظيفته وصورة الدولة وأن يعيد ثقة المجتمع في السياسيين.
وهو ماا يؤكّده الأستاذ عبد النّاصر الكريفي من جهته : يجب أن لا تتعارض صلاحيات رئيس الجمهورية ممثّل الدّولة التونسيّة مع الدّستور ويجب عليه أن يتحلّى بالنّزاهة وأن تكون له قراءة صحيحة للمستجدات سواء على المستوى الوطنيّ أو الاقليميّ.

تبدو ملامح رئيس الجمهورية في أذهان الجامعيين صورة مزركشة تحمل بين ثناياها خصالا متنوعة ومناقب كثيرة منشودة هي خلاصة تجارب سابقة وصورة مخيبة للآمال لرئيس الجمهورية و تركة من أخطاء كبرى ارتكبها رئيس سابق أو رئيس حاليّ وهي صورة تعبّر عن واقع عاشه التونسيون و يعيشونه في علاقة بممثّلهم في الدّاخل والخارج إذ نجد من بين هذه التمثلات ما يحيل على عمق في التصوّر ومن بينها الآخر ما يعكس بحثا عن المظهر الخارجيّ لرئيس التونسيين ومن الآراء المشكلّة حول صورة الرئيس التونسيّ القادم ما يقف أمامه السامع منبهرا وما يفاجئ ويصدم ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ صورة المرأة الرئيسة لم تكن حاضرة في أيّ اجابة من الاجابات التّي تحصّلنا عليها ولكن يبقى الجامعيّون وفق ما قمنا به من استجوابات في نهاية المطاف متفائلين بمستقبل أفضل للجمهورية التونسيّة .
سميّة بالرّجب  







mardi 11 novembre 2014

العالم العربي اليوم حركات الفوضى أم فوضى الحركات ؟

لم يتردّد كتّاب العالم و مفكرّوه في اقتفاء أثر الحركات الذّاتيّة والمجتمعيّة لعالم يعجّ بمظاهر التحرّر والانعتاق تارة وبمظاهر التقوقع والانكماش تارة أخرى،لكأنّ العالم الذّي شهد تقلباته الكثيرة من حروب ساخنة و باردة ومن نزاعات وصراعات علنية وخفيّة ومن ثورات شعبية ناجحة وفاشلة يترجم بتحولاته الكثيرة وبتدفق أحداثه المتسارعة نسقا من أنساق البراكين في سباتها وفورتها الفجئية، أمّا البراكين التّي نتحدّث عنها اليوم فهي براكين فكريّة، نفسيّة واجتماعيّة عربيّة الهوى تبعث بنفحاتها إلى العالم في شكل تحركات عميقة وظاهرة ليقف أمامها المتابع حائرا متسائلا : هل هي  حركات الفوضى؟ أم فوضى الحركات ؟.

يقول طه حسين : إنّ العالم ليكلّف طالبه أهوالا ثقالا. وهذا ما كلّفه العالم للمواطن العربيّ العاديّ، وهو بما هو عليه كسائر البشر ككتلة من الأحلام و المشاعر و التصورات يسيطر عليه الخوف من الآتي  في سياقات عالميّة متصادمة ومقتضيات اقليمية ودولية تحدّد اتجاهه و تسطّر مستقبله وتهدّد أمنه واستقراره الذّاتي والاجتماعيّ وتفرض على أطره المنظمّة لحياته أي دوله الآيلة إلى السقوط –كما وصفها أحد المحللين السياسيين- أن تكبّل أحلامه وتحدّد مصيره.
العرب أو هكذا هي خلاصة من يتكلمون العربيّة اليّوم في مشهد مزركش من ألوان التاريخ بشر ينشؤون على حبّ أوطانهم أو هكذا يخيّل إليهم فلا ترى منهم إلاّ التململ في البقاء على الأرض التّي نشؤوا بين غبارها وتحت سمائها وقت الأزمات مثلهم في ذلك مثل كثير من الشباب التونسيّ الذّي اختار عقب ثورته و ما قبلها أي زمن الاستبداد و الفساد المتواصل في أشكاله الديمقراطيّة في وقتنا الرّاهن أن يقصدوا البحر في محاولات يائسة للهجرة اللاشرعية إلى بلدان يعتقدون أنّ لها صدرا أرحب من وطنهم وعقولا أكثر تفهمّا لواقع البطالة و التهميش الذّي يعيشونه.
اهتزاز قواربهم الراحلة خلسة إلى الحدود الايطالية هو ذاته اهتزاز ذواتهم، وتدفق المياه من تحت قوارب الموت التي تقلهم إلى شبه جزيرة صقلية  هو ذاته تدفق الغضب في قلوبهم ورؤوسهم حين آمنوا بكلمات شاعر تونس الأوّل ابي القاسم الشابي إذ قال : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر، استجاب القدر برحيل طاغية ولكنّه لم يستجب برحيل واقع اقتصاديّ واجتماعيّ متأزّم فاختار الشباب اليائس أن لا ينتظر طويلا وأن يرحل، هي إذا حركة القرار الأخير حين تولد في ضوء الأزمات.

حين يتلو حركة الرحيل رحيل الحركة

كيف تبنى حركة الترحال الاراديّ للشباب التونسيّ إلى عالم يظنونه أفضل من عالمهم في وطن يعيش مشاكله من وضع اقتصاديّ مزر وواقع ديكتاتورية تحكم بالحديد و النار في مصير شعب مثقف فحكم على أصحاب الشهادات العليا أن ينغمسوا في مرق الأميّ والمنحرف والمهمشّ.
 اليأس إذا هو مفتاح القضيّة، أي تلك الحركة الانفعالية المتهورة لذواتنا حين نبني حولنا الكثير من الجدران الشاهقة ولا نرى للخلاص سوى طريقا واحدا هو الموت أو مغامرة مميتة وهو ما يحيل عليه  قول العالم الانقليزي المعروف اسحاق نيوتن الذّي همهم أمام تجربته الحياتية الطويلة قائلا: * نحن نبني الكثير من الجدران و القليل من الجسور*.
بعض أصوات المنطق تؤكّد : لاحركة في هذا العالم العربيّ تنشأ من عدم و مثلها كانت حركة الفارين من أبناء لبنان - وطن تنازعته الصراعات السياسيّة والطائفية – فهاجر أغلبهم إلى بلدان أمريكا اللاتينية هناك حيث تنشأ بين ألحان الصامبا و التانغو والصالصا أوجاع عربيّة بامتياز قد تصرخ بشيء من اغتراب العتابا والدلعونة  والأوف ونحوها ممّا تقلّده اللبنانيون من شهوق الجبل في بحثهم عن رحلة آمنة في المحيط الأطلسيّ عبر المتوسّط إلى وجهاتهم المختلفة.
 هل يكفي الشباب اللبنانيّ اليوم في وطن ممزّق أن يحلم بحركة أنبل من حركة الترحال نحو قدر آخر، هناك حيث يجمعون الثروة متوكئين في ذلك على عصا غليظة من موروثهم الثقافي التجاريّ ويرسمون مستقبلا بعيدا عن أوطانهم كأنّهم يجسدون في حركتهم تلك مقولة الفنّان الاسبانيّ دالي سلفادور الذّي قال في لحظة جنون واعية ذات يوم : *أعتقد أنّه آن الأوان لأن نجعل من الاضطراب شيئا منظّما*، كما هو حال اللبنانيّ المتحرّك في أمريكا اللاتينية وأدغال افريقيا وغيرها من بقاع الأرض بأن لا يستسلم لفوضى الوطن بل يحمل الوطن المبعثر داخل نظام معيّن لكيانه خارج الوطن ذاته.

حركات الألم و محرّكات الأمل     
 
*الفقر أنهك شبابنا..والجوع كافر* كلمات يردّدها المواطن المصريّ يوميا وهل يكتفي المواطن المصريّ اليوم بألف تحرّك احتجاجيّ غاضب حتّى يعبّر عن مأساة اجتماعيّة و اقتصاديّة و سياسيّة عميقة يعيشها منذ عقود، وهل يكفي الشعب المصريّ اليوم ألف تحرّك ثائر حتّى يترجم ما يختلج داخله من احساس مضن بالقهر ؟
أسئلة قد ترمم الخطابات السياسية الحالية واللغة الفوقية الخشبية بضع اجابات مرتبكة عنها لكنّها ستذوب وتمضي مع حركة انتعاش نسبيّ لنهر النيل.
 الألم اضطراب فرعونيّ آخر من اضطراب ذواتنا البشرية أو هو حركة تمرّد دامية داخل الكيان الانسانيّ ذاته، هناك حيث مصنع الأمل يشيّد صرحه ويرفع قوامه، لا أحد في هذا العالم العربيّ ييأس من حركته حين تولّد طاقة الأمل من نهر ألم كبيرهذا ما عبّر عنه المصريون في ساحاتهم الصاخبة إبّان ثورتهم وما بعدها أو هذا ما قاله توفيق الحكيم ذات يوم في مناسبة مشابهة : *لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم* كأنّه يقول قدر الشعب المصريّ أن يشهد ثوراته المتتابعة بحثا عن استقرار وتوازن منشود.
فوضى الذّات المصريّة والمجتمع المصريّ هي مظهر آخر لتحرّك داخل التحرّك أي هي الفوضى ذاتها التّي ترتبّ مكانة المصريّ في الشرق الأوسط اليوم وتجعل من حطب معركة التناحر العالميّ فوق أراضي الهلال الخصيب وقودا لاسترداد القوّة الاقليمية المصريّة و الدّور الفاعل في المشهد العربيّ.

حركات العرب..الفوضى الخلاقة

أجزاء العالم العربيّ تشكّل في عموم الصورة بقعا من الزيت وفي بعض الأحيان بقعا من النّفط، هنا حيث يقع العراق وحيدا أمام تمخضّ  حركات الكثبان الرمليّة، هكذا يمكن أن نشبّه سكان العراق وهم يغيرون اتجاهاتهم و مواقفهم السياسية بين الحين و الآخر ويتوهون في فوضى البحث عن التوازن وسط عاصفة رملية هوجاء من المذهبية والتناحر الشيعي السنيّ الذّي تدفع أقليات أخرى كالأزيديين و المسيحيين ثمنه اليوم هاربة إلى اقليم كردستان أو إلى وجهات تدعوها علانية إلى الالتحاق بها كالدول الغربيّة.

 الديمقراطية الدّامية حركة أخرى من حركات الشعوب العربيّة، بحث عن التأقلم مع وضع لم يختره أهل العراق إلاّ لسأم وخوف، وفوق الحركة المباغتة للرهبة و الخوف تبني دول أخرى مخططاتها الآثمة في المنطقة، ماذا يحمل العراقيّ اليوم داخله ؟ سؤال قد تجيبنا عنه حركة حرب 2003 وقد تجيبنا عنه حركة حكومات عراقية متتالية فكّكت في حركاتها الطائفية أوصال الشعب العراقيّ، فوهنت الدّولة وصار العراق دولا طائفية وجماعات مسلحة و تنظيمات لا تفقه منطق التوحّد داخل دولة واحدة بل تتحرّك لتحدث آثار حركاتها الكثير من الموت و الدّمار.
المشهد العراقيّ اليوم عبارة عن فوضى عارمة من الحركات المتداخلة للمصالح الأجنبية والحقد الطائفيّ والبحث المضني للعراقيين العزّل عن الاستقرار والعودة إلى نظام الدولة القويّة، وداخل هذه الفوضى التي وصفتها ذات يوم وزيرة الخارجية الأمريكية كونليزا رايس بالفوضى الخلاقة نشأت حركات أخرى من الفوضى داخل المواطن العربيّ ذاته.
 ربّما لا نشاطر القول بأن العرب يخرجون في لحظات التأزّم أقوى ما فيهم أي العقيدة فهذه الحركة اليوم لم تخرج أفضل ما لدى المواطن العربيّ بل أخرجت صورا مشوهة عن جانب يعتقد العربيّ أنّه موطن القوّة الوحيد الذّي بقي لديه فمن رحم الصور المشوهة للعقيدة ولدت داعش أو الدولة الاسلامية في العراق و الشام  ومن رحم تمثلاّت العربيّ المشوهة للعقيدة أيضا بات العربيّ المسلم يرى في تمظهر القوّة العنيفة ما يخجله أمام العالم المدافع عن حقوق الانسان.
و بالحديث عن حقوق الانسان يمثل المواطن السوريّ تحت مجهر الإعلام، فلم يسبق أن عاشت بلاد الشام في تاريخها المعاصر دمارا مشابها لذاك الذّي تعيشه اليوم، حركات برقية من الفوضى تغتال المواطن السوريّ وتسلّط على حاضره عددا كبيرا من الكوابيس، هل كان على المواطن السوريّ بما لديه من سماحة وخصال تسامح نبيلة أن يركب موجة المواجهة حتّى يكتشف إلى أيّ مدى يمكن أن تفلت الأمور من بين يديه في حركته تلك؟ هل كان على المواطن السوريّ أن يقتحم في حركة اراديّة عالم الانتفاضات الكبرى حينا والوهمية أحيانا حتّى يدرك أنّه اختار طريقا طويلا للتحرّك ضدّ الأضداد في مربّع جغرافيّ واحد شأنه في ذلك شأن كلّ الشعوب العربيّة التي اتخذت مسارها الثوري دون إعداد مسبق أو توقع يذكر لخطوات تلي تحرّك البراكين الشعبية وفورتها.
حركة الموت الاضطراريّ..ضجيج الحياة

على أرض سوريا تفتت الحلم الثوريّ و نبتت مخالب المصلحة الدولية ..حركة النّظام السوريّ في حدّ ذاته كانت تردع في العمق حركة منفصلة عن جوهر الأحداث، حتّى حركات الحبّ لوطن يعيش مأساته بين نظام ديكتاتوريّ و عنف مسلّح يتدفق من كلّ حدب وصوب بمباركة عربيّة وأجنبية كانت تحمل قوّة ظاهرة داخل ضعف نخر.  
العرب في تحركاتهم وانتفاضاتهم اليوم يجربون طعما جديدا من التحركات فإذا كان اليأس والقهر والفقر والرغبة المضنية لتغيير الواقع الجاثم على صدر العربيّ محرّكات كافية للارتماء بين أحضان الموت فإنّهم استغرقوا كثيرا من الوقت كي يجربّوا مذاق هذه الحركات الفوضوية ظاهرا والمنضمّة في العمق، إذ لا يخفى على العرب أنّ فلسطين كانت سباقة إلى تذوّق طبق الموت الاضطراريّ ومازالت، يكفي أن نلقي بالا إلى أحداث غزّة في شهر رمضان الأخير 2014، لنعلم أنّ موت الحركة يخلق شعبا نائما فيما حياة الحركة قد تفرز شعبا لا يهاب الموت أو لنقل شعبا يقتل لذات السبب.
هو الضجيج ذاته الذّي جعل شعوبا تتحرّر من الاستعمار في القرن العشرين  وهو الضجيج ذاته أيضا أو يكاد الذّي خلّص شعوبا من الديكتاتورية الغاشمة على غرار تونس و مصر و اليمن في القرن الواحد و العشرين وهو الضجيج الذّي تحدّث عنه مالكوم اكس حين قال : لقد تعلّمت باكرا أنّ الحقّ لا يعطى لمن يسكت عنه وأنّ على المرء أن يحدث بعض الضجيج كي يحصل على ما يريد.
هو ذات الضجيج الذّي أحدثه أيضا أحفاد عمر المختار الذّي قال : نحن قوم لا نستسلم ننتصر أو نموت، مات الكثيرمن الليبيين في محاربة نظام معمرّ القذافي ربّما كان أملهم من وراء هذا التحرّك أن تتغيّر ليبيا وأن تصبح منارة للعلم والثقافة عوض الالتزام بكتب خضراء من صنع حاكمها الغاشم.
 تحرّك الليبيين أيضا كان تعبيرا عن حركة اعتملت داخلهم فجأة بهدف القضاء على اسباب الديكتاتورية ولخلق آراء مختلفة حتى تزهر صحراء ليبيا بخيرة شبابها لكنّ قوّات الناتو كانت قد تحرّكت بنسق أسرع من نسق حركة الحلم الثوريّ لدى الشباب الليبيّ لتؤسس لجوّ خانق من الفوضى تحيل عليه تعفنات الوضع الحاليّ من اغتيالات لنشطاء المجتمع المدنيّ وأخبار مقتل المثقفين الليبيين داخل منازلهم في محاولة لقتل الحركة المثمرة داخل عقول هؤلاء بل لنقل لاغتيال الحلم في المهد.

حين ينظر العربيّ اليوم إلى مرآته اليوم يراها مكسورة و مجزأة،و لسائل أن يسأل : هل تحركت المشاعر المكبوتة النائمة داخل العربيّ منذ سنوات لتدقّ مسمارا جديدا في نعش حلمه ؟ هل عاش فوضى تحركاته تلك كي يستتب وضع المجتمع وتشتدّ عماد الدولة أم أنّ تحركاته كانت ضربا من ضروب الفوضى والأوهام انهارت معها كلّ آماله وتساقطت كأوراق الخريف في ربيع قيل أنّه عربيّ؟
هل ندم العربيّ حين تحرّك أم أنّ حركة فراره الكثيفة نحو الدول الغنية و المتقدّمة في الآونة الأخيرة كافية لتعكس صورا من سخطه على واقع التحركات التي اقترفها بيديه ؟
أسئلة عدّة قد لا نملك أن نجيب عنها في الوقت الراهن يكفي أن نجد للعربيّ اليوم حركة دائرية تعيده إلى مواطن الأمل والحلم من جديد حينها فقط سيشير العربيّ إلى نفسه في حركة واثقة قائلا : هناك سحر ينبع منّي حين أرى شيئا و أسميه باسم شيء آخر.

سميّة بالرّجب

lundi 10 novembre 2014

رحلة إلى مصر العميقة

شددت الرّحال في موفّى شهر أكتوبر 2014 إلى مصر حاملة معي هوسي القديم بها، ذكريات الطفولة و الشباب  و صور كثيرة من صور فنانيها تطرق ذاكرتي فيعنّ لي أن أتخيلّ مصر امرأة جميلة بعينين عسلتين وصوت مزركش من ألحان محمد عبد الوهاب وزهو عبد الحليم حافظ و مواويل أمّ كلثوم . 

طرقت باب مصر للمرّة الأولى كانت تفتح ذراعيها لكلّ الوافدين وتسقيهم من عذب مياه النيل وتجالسهم في شارع المعزّ بدين الله الفاطمي لتروي لهم تاريخ الفاطميين و الايوبيين و العثمانيين و تحملهم إلى أعالي الهضاب لتسكنهم في قلعة محمد علي باشا و ترسلهم إلى الجيزة على جناح السرعة لاكتشاف عجائبها من الأهرامات الفرعونية و زهرة اللوتس وهي تقطر عطرا قادما من ريح كليوبترا سليلة طالموس .

أحجيات مصر أرقتني، كيف لا و الحال أنّ المرأة الجميلة كانت عجوزا حكيمة تدندن بأغاني جديدة ..ركبت قوارب النيل كان القارب يسرد قصّة مختلفة بعيدة كلّ البعد عن ماض مصريّ عشته في تفاصيل الأفلام و المسلسلات المصريّة، كانت الأغنيات حزينة و كانت الوجوه باهتة رغم الصخب والاجواء الضاربة في الشعبية التي أثثتها أغاني اليائسين من أبناء الشعب المصريّ المهمشّ ..فحيث ترقص الفتيات على سطح القارب كنت أرى حزنا دفينا في حركاتهنّ..ألما ربّما يعبّر عن احباط الشباب المصريّ ..احباط قد يشبه في جانب كبير منه ما يمرّ به الشباب التونسيّ في الوقت الحاليّ مع اختلافات عميقة في الأساليب .

لمصر وجوه عديدة و لقاهرتها سحر لا تدرك معناه الحقيقيّ إلاّ حين يخيّم الظلام ..يستر السواد عورة الوجع و يعيدك إلى تألقّ القاهرة و هي تتلألأ بين أنوارها و تسبح في نيلها المزدان بالقوارب الضاحكة و المراكب السياحية الفاخرة .
من أعلى مكان في المدينة ..من برج القاهرة كانت الأضواء تختطفني و تقول لي : هنا رسم التاريخ رسومه وعلّم الزمن أسراره لكبارنا وصغارنا لكنّ ضوء القمر كان أقرب إلى يدي من أضواء القاهرة، البرج صاحب 64 طابقا كان كفيلا بأن يجعلني أطير فوق  المدينة و أرى سحرها الفرعونيّ وأشتمّ رائحتها .الاسطورية

في مكان ما من المدينة كان لي موعد مع دار الأوبرا المصريّة ..احتسيت قهوة بين جنبات المبنى والتقيت الأحبّة و الأصدقاء كانوا قادمين من مكان بحريّ حاملين معهم نسائم الاسكندرية و نفحات من هوسي بامبراطورية الملكة الفرعونية وهي تنازع حاكم الرومان في عصر بائد . 

حزن الفنانين المصريين أيضا على مصر كان مجسّما في رسوماتهم و قطعهم الفنية ومنحوتاتهم في أروقة قصر الفنون، هناك
 حيث تفاعلت مع الرسوم حاملة شيئا من الأمل ..مادام في مصر فنّ فهي بخير . 
انتقلت إلى ملمح آخر من ملامح مصر ..مصر الديانات و تلاقح الأجيال و الحضارات ..في أنهج مصر القديمة كان لنا لقاء مع الكنيسة المعلّقة ..دخلنا المكان كان هادئا كوجه مريم ..أقرب إلى ابتسامة اليسوع منه إلى حزن مصر بعد الثورة 
تجولنا في انحاء التحفة المعمارية وانتقلنا إلى مسجد عمرو ابن العاص حيث كلّ شبر في الجامع يرتفع إلى جوّ فريد من الروحانيات ..هناك حيث تسربلنا اللون الأخضر بدا لي في ربوع الجامع شيء من بهاء الحضارة الاسلاميّة

لا ريب أنّ مصر المزدانة بالتاريخ كانت تعلم ما نكنّ لها من حبّ وما نرجوه لها من خير ..زمن السيسي لن يكون سوى مرحلة من المراحل قد تشرق فيه الشمس رغم الغيوم البادية هنا و هناك فوق أسطح المنازل المصرية في الحارات الشعبية . 

السيدة زينب كانت تنتظرنا في مرقدها ..هرعنا إليها لقراءة الفاتحة لكنّنا رأينا من روادها ما آلمنا ..الغلابة أو هكذا يطلق مرتادوا المسجد هذه التسمية على أنفسهم كانوا في أمسّ الحاجة إلى وطن ينهض بهم و يخرجهم من عذاباتهم و من 
رزوحهم المضني تحت أثقال الفقر و الفاقة لأستحضر أجزاء من روايات وأقاصيص طه حسين أديب مصر ومفكرّها و هو يسرد لنا حكايا المعذّبين في الأرض و فصلا من فصول روايته الأيام  
رحلنا سريعا ..آلمنا أن نرى وجها آخر لمصر ينضح ألما ..فجأة
 تذكرت الأزهر كم كان لقائي به جميلا ..هناك اشتممت ريح علماء الزيتونة ..الأزهر الشريف تركة للأجداد من افريقية  تحطّ رحالها بين الانهج العتيقة في مصر ..هذا التلاقح التاريخي الجميل جعلني أفكرّ في حكمة الأجداد ..لسنا غرباء في أرض مصر فهي منّا و نحن لها .
الأسواق المحيطة بجامع الحسين ..كانت تدفعنا لاكتشاف مقهى الفيشاوي و جمال الأضواء في خان الخليلي يغرينا بالتوغل أكثر حيث حملتنا الكلمات الرنانة إلى مقهى نجيب محفوظ ..هناك حيث يلتقي المثقفون و يقيمون حفلة غنائية فريدة فيتذكرون الماضي الجميل لمصر الأدب و الفنّ والجمال . 

كلّ شيء في أنهج القاهرة كان يستفز رغبتي باكتشاف مصر العميقة ..رائحة الكشري المنبعثة من محلاتها كانت تروّض حاسة الذوق لديّ و طعم الكركديه و القصب كان يحثني دائما على تذوّق المزيد ..
ركبت المكروباص كان أشبه بمغامرة فريدة لسائحة عربية ..في الميكروباص -وسيلة النقل الأكثر شعبية في مصر- اكتشفت رائحة أخرى للمكان ..لكأنّك تخرج من عالم مصطنع في مدينة نصر لترى وجها شعبيا فريدا للمصريّ البسيط الذّي يحلم أن تتغيرّ الظروف في زمن الرئيس الجديد و أن يعود لمصر حليها القديم لتتوشح بأردية قوية و تلبس كردان المرأة الشابة القويّة كما كانت زمن جمال عبد النّاصر.

حلمت مع البسطاء لمدّة نصف ساعة ونيّف  ..وحين نزلت الغمرة - أقدم محطة مترو في مصر - رأيت وجها آخر للقاهرة ..شعور غريب بالاندفاع و الانطلاق كان يعتريني ووجه صديق مصريّ يطمئنني و يقول لي : نورتي مصر . 

في ميدان التحرير أكلنا الكشري فامعنت في وضع الدقة و الشطة ..ربما أردت له طعما حارا شبيها بأكلات منطقتي الساحلية في تونس ، لم أنسى أبدا طعم الكشري ما جعلني أدفع بالجميع إلى أكله مرة أخرى في يوم لاحق ..لم ينقصني سوى طعم الطعمية الشهير و شيء من الفول الشعبي الأصيل ..منيت نفسي أن آكله في وقت لاحق ..وربما في زيارة قريبة قادمة .

كوبري قصر النيل أيضا كان يحرّك تحت جنح الليل احساسا غريبا بالشوق داخلي..هناك فقط يمكن لك أن تستجمع كلّ ما تريد من مشاعر و أحاسيس ..رؤية العشاق على حافة النيل و فوق ضفتي الكوبري كانت تعيدني إلى مراهقتي ..لا شيء أجمل من أن تحبّ على الطريقة المصريّة أن تجتمع فيك رقة فاتن حمامة وجسارة هند رستم و غنج سعاد حسني و عذوبة شادية وما خفي كان أعظم  ..
صديقنا المصريّ انتبه إلى شيء من مراهقتي وهي تستيقظ فجأة داخل فتاة تونسية من أصول أندلسية  فحثني على أن لا أفوّت الفرصة ..ليقول لي مبتسما : تعالي اصعدي وضعي يديك على سياج الكبري و تنفسي بعمق ..نصيحته كانت أكثر من رائعة ..هناك حلقت بأقصى سرعة إلى حيث لا أدري . 
تعلّمت بعدها أن أقطع الطريق بسرعة خيالية أيضا ..صدّقوني 
وكلّما شاهدت سيارة الأجرة تناهى إلى مسمعي صوت سائق طمّاع حاول أن يبتزّ أموالنا و نحن في طريقنا إلى المتحف المصريّ الذّي أبهرني بغزارة الموروث الفرعونيّ و بهاء هندسته الخارجيّة .

طعم القهوة أيضا كان مميزّا ..ربّما لم يكن بذات القوّة المعهودة لكنّها -القهوة المصرية- كانت ذا مذاق فريد خاصّة إن أضيفت إليه حبّة الهال العطرة ..يا عيني ..شربنا القهوة في مقرّ نقابة الصحافيين ذات يوم ..صديق مصريّ آخر كان يهيئنا لتجربة فريدة جديدة ويصحبنا إلى مجلة روز اليوسف حيث أمضينا وقتا ممتعا برفقته و رأينا تفاصيل شاحبة لمؤسسة ضاربة في القدم في مجال الصحافة المكتوبة . 
الدّورة التدريبية التي قادتنا إلى مصر وسط مشاغلنا و متاعبنا في أوطاننا جمعت بيننا وبين عدد كبير من الأصدقاء الليبيين و المصريين ووحدت بين قلوبنا و ألفت بينها رغم اختلاف منابع الألم داخلنا ..لا شيء ألطف من حضن مصريّ يجمعنا ! وسط ثورات الهواجس و الأفكار.
كان آخر شيء شاهدته قبل رحيلي  هو وجه القاهرة و هي تودعني بابتسامة تاريخية و ملامح فرعونية و جمال مغبرّ سيرجع إليه ألقه ذات يوم ..وكلّ شبر فيها يخاطبني قائلا :  عودي سريعا ..نورتي مصر .



سميّة بالرّجب 
تونس 
10/11/2014