lundi 10 novembre 2014

رحلة إلى مصر العميقة

شددت الرّحال في موفّى شهر أكتوبر 2014 إلى مصر حاملة معي هوسي القديم بها، ذكريات الطفولة و الشباب  و صور كثيرة من صور فنانيها تطرق ذاكرتي فيعنّ لي أن أتخيلّ مصر امرأة جميلة بعينين عسلتين وصوت مزركش من ألحان محمد عبد الوهاب وزهو عبد الحليم حافظ و مواويل أمّ كلثوم . 

طرقت باب مصر للمرّة الأولى كانت تفتح ذراعيها لكلّ الوافدين وتسقيهم من عذب مياه النيل وتجالسهم في شارع المعزّ بدين الله الفاطمي لتروي لهم تاريخ الفاطميين و الايوبيين و العثمانيين و تحملهم إلى أعالي الهضاب لتسكنهم في قلعة محمد علي باشا و ترسلهم إلى الجيزة على جناح السرعة لاكتشاف عجائبها من الأهرامات الفرعونية و زهرة اللوتس وهي تقطر عطرا قادما من ريح كليوبترا سليلة طالموس .

أحجيات مصر أرقتني، كيف لا و الحال أنّ المرأة الجميلة كانت عجوزا حكيمة تدندن بأغاني جديدة ..ركبت قوارب النيل كان القارب يسرد قصّة مختلفة بعيدة كلّ البعد عن ماض مصريّ عشته في تفاصيل الأفلام و المسلسلات المصريّة، كانت الأغنيات حزينة و كانت الوجوه باهتة رغم الصخب والاجواء الضاربة في الشعبية التي أثثتها أغاني اليائسين من أبناء الشعب المصريّ المهمشّ ..فحيث ترقص الفتيات على سطح القارب كنت أرى حزنا دفينا في حركاتهنّ..ألما ربّما يعبّر عن احباط الشباب المصريّ ..احباط قد يشبه في جانب كبير منه ما يمرّ به الشباب التونسيّ في الوقت الحاليّ مع اختلافات عميقة في الأساليب .

لمصر وجوه عديدة و لقاهرتها سحر لا تدرك معناه الحقيقيّ إلاّ حين يخيّم الظلام ..يستر السواد عورة الوجع و يعيدك إلى تألقّ القاهرة و هي تتلألأ بين أنوارها و تسبح في نيلها المزدان بالقوارب الضاحكة و المراكب السياحية الفاخرة .
من أعلى مكان في المدينة ..من برج القاهرة كانت الأضواء تختطفني و تقول لي : هنا رسم التاريخ رسومه وعلّم الزمن أسراره لكبارنا وصغارنا لكنّ ضوء القمر كان أقرب إلى يدي من أضواء القاهرة، البرج صاحب 64 طابقا كان كفيلا بأن يجعلني أطير فوق  المدينة و أرى سحرها الفرعونيّ وأشتمّ رائحتها .الاسطورية

في مكان ما من المدينة كان لي موعد مع دار الأوبرا المصريّة ..احتسيت قهوة بين جنبات المبنى والتقيت الأحبّة و الأصدقاء كانوا قادمين من مكان بحريّ حاملين معهم نسائم الاسكندرية و نفحات من هوسي بامبراطورية الملكة الفرعونية وهي تنازع حاكم الرومان في عصر بائد . 

حزن الفنانين المصريين أيضا على مصر كان مجسّما في رسوماتهم و قطعهم الفنية ومنحوتاتهم في أروقة قصر الفنون، هناك
 حيث تفاعلت مع الرسوم حاملة شيئا من الأمل ..مادام في مصر فنّ فهي بخير . 
انتقلت إلى ملمح آخر من ملامح مصر ..مصر الديانات و تلاقح الأجيال و الحضارات ..في أنهج مصر القديمة كان لنا لقاء مع الكنيسة المعلّقة ..دخلنا المكان كان هادئا كوجه مريم ..أقرب إلى ابتسامة اليسوع منه إلى حزن مصر بعد الثورة 
تجولنا في انحاء التحفة المعمارية وانتقلنا إلى مسجد عمرو ابن العاص حيث كلّ شبر في الجامع يرتفع إلى جوّ فريد من الروحانيات ..هناك حيث تسربلنا اللون الأخضر بدا لي في ربوع الجامع شيء من بهاء الحضارة الاسلاميّة

لا ريب أنّ مصر المزدانة بالتاريخ كانت تعلم ما نكنّ لها من حبّ وما نرجوه لها من خير ..زمن السيسي لن يكون سوى مرحلة من المراحل قد تشرق فيه الشمس رغم الغيوم البادية هنا و هناك فوق أسطح المنازل المصرية في الحارات الشعبية . 

السيدة زينب كانت تنتظرنا في مرقدها ..هرعنا إليها لقراءة الفاتحة لكنّنا رأينا من روادها ما آلمنا ..الغلابة أو هكذا يطلق مرتادوا المسجد هذه التسمية على أنفسهم كانوا في أمسّ الحاجة إلى وطن ينهض بهم و يخرجهم من عذاباتهم و من 
رزوحهم المضني تحت أثقال الفقر و الفاقة لأستحضر أجزاء من روايات وأقاصيص طه حسين أديب مصر ومفكرّها و هو يسرد لنا حكايا المعذّبين في الأرض و فصلا من فصول روايته الأيام  
رحلنا سريعا ..آلمنا أن نرى وجها آخر لمصر ينضح ألما ..فجأة
 تذكرت الأزهر كم كان لقائي به جميلا ..هناك اشتممت ريح علماء الزيتونة ..الأزهر الشريف تركة للأجداد من افريقية  تحطّ رحالها بين الانهج العتيقة في مصر ..هذا التلاقح التاريخي الجميل جعلني أفكرّ في حكمة الأجداد ..لسنا غرباء في أرض مصر فهي منّا و نحن لها .
الأسواق المحيطة بجامع الحسين ..كانت تدفعنا لاكتشاف مقهى الفيشاوي و جمال الأضواء في خان الخليلي يغرينا بالتوغل أكثر حيث حملتنا الكلمات الرنانة إلى مقهى نجيب محفوظ ..هناك حيث يلتقي المثقفون و يقيمون حفلة غنائية فريدة فيتذكرون الماضي الجميل لمصر الأدب و الفنّ والجمال . 

كلّ شيء في أنهج القاهرة كان يستفز رغبتي باكتشاف مصر العميقة ..رائحة الكشري المنبعثة من محلاتها كانت تروّض حاسة الذوق لديّ و طعم الكركديه و القصب كان يحثني دائما على تذوّق المزيد ..
ركبت المكروباص كان أشبه بمغامرة فريدة لسائحة عربية ..في الميكروباص -وسيلة النقل الأكثر شعبية في مصر- اكتشفت رائحة أخرى للمكان ..لكأنّك تخرج من عالم مصطنع في مدينة نصر لترى وجها شعبيا فريدا للمصريّ البسيط الذّي يحلم أن تتغيرّ الظروف في زمن الرئيس الجديد و أن يعود لمصر حليها القديم لتتوشح بأردية قوية و تلبس كردان المرأة الشابة القويّة كما كانت زمن جمال عبد النّاصر.

حلمت مع البسطاء لمدّة نصف ساعة ونيّف  ..وحين نزلت الغمرة - أقدم محطة مترو في مصر - رأيت وجها آخر للقاهرة ..شعور غريب بالاندفاع و الانطلاق كان يعتريني ووجه صديق مصريّ يطمئنني و يقول لي : نورتي مصر . 

في ميدان التحرير أكلنا الكشري فامعنت في وضع الدقة و الشطة ..ربما أردت له طعما حارا شبيها بأكلات منطقتي الساحلية في تونس ، لم أنسى أبدا طعم الكشري ما جعلني أدفع بالجميع إلى أكله مرة أخرى في يوم لاحق ..لم ينقصني سوى طعم الطعمية الشهير و شيء من الفول الشعبي الأصيل ..منيت نفسي أن آكله في وقت لاحق ..وربما في زيارة قريبة قادمة .

كوبري قصر النيل أيضا كان يحرّك تحت جنح الليل احساسا غريبا بالشوق داخلي..هناك فقط يمكن لك أن تستجمع كلّ ما تريد من مشاعر و أحاسيس ..رؤية العشاق على حافة النيل و فوق ضفتي الكوبري كانت تعيدني إلى مراهقتي ..لا شيء أجمل من أن تحبّ على الطريقة المصريّة أن تجتمع فيك رقة فاتن حمامة وجسارة هند رستم و غنج سعاد حسني و عذوبة شادية وما خفي كان أعظم  ..
صديقنا المصريّ انتبه إلى شيء من مراهقتي وهي تستيقظ فجأة داخل فتاة تونسية من أصول أندلسية  فحثني على أن لا أفوّت الفرصة ..ليقول لي مبتسما : تعالي اصعدي وضعي يديك على سياج الكبري و تنفسي بعمق ..نصيحته كانت أكثر من رائعة ..هناك حلقت بأقصى سرعة إلى حيث لا أدري . 
تعلّمت بعدها أن أقطع الطريق بسرعة خيالية أيضا ..صدّقوني 
وكلّما شاهدت سيارة الأجرة تناهى إلى مسمعي صوت سائق طمّاع حاول أن يبتزّ أموالنا و نحن في طريقنا إلى المتحف المصريّ الذّي أبهرني بغزارة الموروث الفرعونيّ و بهاء هندسته الخارجيّة .

طعم القهوة أيضا كان مميزّا ..ربّما لم يكن بذات القوّة المعهودة لكنّها -القهوة المصرية- كانت ذا مذاق فريد خاصّة إن أضيفت إليه حبّة الهال العطرة ..يا عيني ..شربنا القهوة في مقرّ نقابة الصحافيين ذات يوم ..صديق مصريّ آخر كان يهيئنا لتجربة فريدة جديدة ويصحبنا إلى مجلة روز اليوسف حيث أمضينا وقتا ممتعا برفقته و رأينا تفاصيل شاحبة لمؤسسة ضاربة في القدم في مجال الصحافة المكتوبة . 
الدّورة التدريبية التي قادتنا إلى مصر وسط مشاغلنا و متاعبنا في أوطاننا جمعت بيننا وبين عدد كبير من الأصدقاء الليبيين و المصريين ووحدت بين قلوبنا و ألفت بينها رغم اختلاف منابع الألم داخلنا ..لا شيء ألطف من حضن مصريّ يجمعنا ! وسط ثورات الهواجس و الأفكار.
كان آخر شيء شاهدته قبل رحيلي  هو وجه القاهرة و هي تودعني بابتسامة تاريخية و ملامح فرعونية و جمال مغبرّ سيرجع إليه ألقه ذات يوم ..وكلّ شبر فيها يخاطبني قائلا :  عودي سريعا ..نورتي مصر .



سميّة بالرّجب 
تونس 
10/11/2014

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire