mardi 11 novembre 2014

العالم العربي اليوم حركات الفوضى أم فوضى الحركات ؟

لم يتردّد كتّاب العالم و مفكرّوه في اقتفاء أثر الحركات الذّاتيّة والمجتمعيّة لعالم يعجّ بمظاهر التحرّر والانعتاق تارة وبمظاهر التقوقع والانكماش تارة أخرى،لكأنّ العالم الذّي شهد تقلباته الكثيرة من حروب ساخنة و باردة ومن نزاعات وصراعات علنية وخفيّة ومن ثورات شعبية ناجحة وفاشلة يترجم بتحولاته الكثيرة وبتدفق أحداثه المتسارعة نسقا من أنساق البراكين في سباتها وفورتها الفجئية، أمّا البراكين التّي نتحدّث عنها اليوم فهي براكين فكريّة، نفسيّة واجتماعيّة عربيّة الهوى تبعث بنفحاتها إلى العالم في شكل تحركات عميقة وظاهرة ليقف أمامها المتابع حائرا متسائلا : هل هي  حركات الفوضى؟ أم فوضى الحركات ؟.

يقول طه حسين : إنّ العالم ليكلّف طالبه أهوالا ثقالا. وهذا ما كلّفه العالم للمواطن العربيّ العاديّ، وهو بما هو عليه كسائر البشر ككتلة من الأحلام و المشاعر و التصورات يسيطر عليه الخوف من الآتي  في سياقات عالميّة متصادمة ومقتضيات اقليمية ودولية تحدّد اتجاهه و تسطّر مستقبله وتهدّد أمنه واستقراره الذّاتي والاجتماعيّ وتفرض على أطره المنظمّة لحياته أي دوله الآيلة إلى السقوط –كما وصفها أحد المحللين السياسيين- أن تكبّل أحلامه وتحدّد مصيره.
العرب أو هكذا هي خلاصة من يتكلمون العربيّة اليّوم في مشهد مزركش من ألوان التاريخ بشر ينشؤون على حبّ أوطانهم أو هكذا يخيّل إليهم فلا ترى منهم إلاّ التململ في البقاء على الأرض التّي نشؤوا بين غبارها وتحت سمائها وقت الأزمات مثلهم في ذلك مثل كثير من الشباب التونسيّ الذّي اختار عقب ثورته و ما قبلها أي زمن الاستبداد و الفساد المتواصل في أشكاله الديمقراطيّة في وقتنا الرّاهن أن يقصدوا البحر في محاولات يائسة للهجرة اللاشرعية إلى بلدان يعتقدون أنّ لها صدرا أرحب من وطنهم وعقولا أكثر تفهمّا لواقع البطالة و التهميش الذّي يعيشونه.
اهتزاز قواربهم الراحلة خلسة إلى الحدود الايطالية هو ذاته اهتزاز ذواتهم، وتدفق المياه من تحت قوارب الموت التي تقلهم إلى شبه جزيرة صقلية  هو ذاته تدفق الغضب في قلوبهم ورؤوسهم حين آمنوا بكلمات شاعر تونس الأوّل ابي القاسم الشابي إذ قال : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر، استجاب القدر برحيل طاغية ولكنّه لم يستجب برحيل واقع اقتصاديّ واجتماعيّ متأزّم فاختار الشباب اليائس أن لا ينتظر طويلا وأن يرحل، هي إذا حركة القرار الأخير حين تولد في ضوء الأزمات.

حين يتلو حركة الرحيل رحيل الحركة

كيف تبنى حركة الترحال الاراديّ للشباب التونسيّ إلى عالم يظنونه أفضل من عالمهم في وطن يعيش مشاكله من وضع اقتصاديّ مزر وواقع ديكتاتورية تحكم بالحديد و النار في مصير شعب مثقف فحكم على أصحاب الشهادات العليا أن ينغمسوا في مرق الأميّ والمنحرف والمهمشّ.
 اليأس إذا هو مفتاح القضيّة، أي تلك الحركة الانفعالية المتهورة لذواتنا حين نبني حولنا الكثير من الجدران الشاهقة ولا نرى للخلاص سوى طريقا واحدا هو الموت أو مغامرة مميتة وهو ما يحيل عليه  قول العالم الانقليزي المعروف اسحاق نيوتن الذّي همهم أمام تجربته الحياتية الطويلة قائلا: * نحن نبني الكثير من الجدران و القليل من الجسور*.
بعض أصوات المنطق تؤكّد : لاحركة في هذا العالم العربيّ تنشأ من عدم و مثلها كانت حركة الفارين من أبناء لبنان - وطن تنازعته الصراعات السياسيّة والطائفية – فهاجر أغلبهم إلى بلدان أمريكا اللاتينية هناك حيث تنشأ بين ألحان الصامبا و التانغو والصالصا أوجاع عربيّة بامتياز قد تصرخ بشيء من اغتراب العتابا والدلعونة  والأوف ونحوها ممّا تقلّده اللبنانيون من شهوق الجبل في بحثهم عن رحلة آمنة في المحيط الأطلسيّ عبر المتوسّط إلى وجهاتهم المختلفة.
 هل يكفي الشباب اللبنانيّ اليوم في وطن ممزّق أن يحلم بحركة أنبل من حركة الترحال نحو قدر آخر، هناك حيث يجمعون الثروة متوكئين في ذلك على عصا غليظة من موروثهم الثقافي التجاريّ ويرسمون مستقبلا بعيدا عن أوطانهم كأنّهم يجسدون في حركتهم تلك مقولة الفنّان الاسبانيّ دالي سلفادور الذّي قال في لحظة جنون واعية ذات يوم : *أعتقد أنّه آن الأوان لأن نجعل من الاضطراب شيئا منظّما*، كما هو حال اللبنانيّ المتحرّك في أمريكا اللاتينية وأدغال افريقيا وغيرها من بقاع الأرض بأن لا يستسلم لفوضى الوطن بل يحمل الوطن المبعثر داخل نظام معيّن لكيانه خارج الوطن ذاته.

حركات الألم و محرّكات الأمل     
 
*الفقر أنهك شبابنا..والجوع كافر* كلمات يردّدها المواطن المصريّ يوميا وهل يكتفي المواطن المصريّ اليوم بألف تحرّك احتجاجيّ غاضب حتّى يعبّر عن مأساة اجتماعيّة و اقتصاديّة و سياسيّة عميقة يعيشها منذ عقود، وهل يكفي الشعب المصريّ اليوم ألف تحرّك ثائر حتّى يترجم ما يختلج داخله من احساس مضن بالقهر ؟
أسئلة قد ترمم الخطابات السياسية الحالية واللغة الفوقية الخشبية بضع اجابات مرتبكة عنها لكنّها ستذوب وتمضي مع حركة انتعاش نسبيّ لنهر النيل.
 الألم اضطراب فرعونيّ آخر من اضطراب ذواتنا البشرية أو هو حركة تمرّد دامية داخل الكيان الانسانيّ ذاته، هناك حيث مصنع الأمل يشيّد صرحه ويرفع قوامه، لا أحد في هذا العالم العربيّ ييأس من حركته حين تولّد طاقة الأمل من نهر ألم كبيرهذا ما عبّر عنه المصريون في ساحاتهم الصاخبة إبّان ثورتهم وما بعدها أو هذا ما قاله توفيق الحكيم ذات يوم في مناسبة مشابهة : *لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم* كأنّه يقول قدر الشعب المصريّ أن يشهد ثوراته المتتابعة بحثا عن استقرار وتوازن منشود.
فوضى الذّات المصريّة والمجتمع المصريّ هي مظهر آخر لتحرّك داخل التحرّك أي هي الفوضى ذاتها التّي ترتبّ مكانة المصريّ في الشرق الأوسط اليوم وتجعل من حطب معركة التناحر العالميّ فوق أراضي الهلال الخصيب وقودا لاسترداد القوّة الاقليمية المصريّة و الدّور الفاعل في المشهد العربيّ.

حركات العرب..الفوضى الخلاقة

أجزاء العالم العربيّ تشكّل في عموم الصورة بقعا من الزيت وفي بعض الأحيان بقعا من النّفط، هنا حيث يقع العراق وحيدا أمام تمخضّ  حركات الكثبان الرمليّة، هكذا يمكن أن نشبّه سكان العراق وهم يغيرون اتجاهاتهم و مواقفهم السياسية بين الحين و الآخر ويتوهون في فوضى البحث عن التوازن وسط عاصفة رملية هوجاء من المذهبية والتناحر الشيعي السنيّ الذّي تدفع أقليات أخرى كالأزيديين و المسيحيين ثمنه اليوم هاربة إلى اقليم كردستان أو إلى وجهات تدعوها علانية إلى الالتحاق بها كالدول الغربيّة.

 الديمقراطية الدّامية حركة أخرى من حركات الشعوب العربيّة، بحث عن التأقلم مع وضع لم يختره أهل العراق إلاّ لسأم وخوف، وفوق الحركة المباغتة للرهبة و الخوف تبني دول أخرى مخططاتها الآثمة في المنطقة، ماذا يحمل العراقيّ اليوم داخله ؟ سؤال قد تجيبنا عنه حركة حرب 2003 وقد تجيبنا عنه حركة حكومات عراقية متتالية فكّكت في حركاتها الطائفية أوصال الشعب العراقيّ، فوهنت الدّولة وصار العراق دولا طائفية وجماعات مسلحة و تنظيمات لا تفقه منطق التوحّد داخل دولة واحدة بل تتحرّك لتحدث آثار حركاتها الكثير من الموت و الدّمار.
المشهد العراقيّ اليوم عبارة عن فوضى عارمة من الحركات المتداخلة للمصالح الأجنبية والحقد الطائفيّ والبحث المضني للعراقيين العزّل عن الاستقرار والعودة إلى نظام الدولة القويّة، وداخل هذه الفوضى التي وصفتها ذات يوم وزيرة الخارجية الأمريكية كونليزا رايس بالفوضى الخلاقة نشأت حركات أخرى من الفوضى داخل المواطن العربيّ ذاته.
 ربّما لا نشاطر القول بأن العرب يخرجون في لحظات التأزّم أقوى ما فيهم أي العقيدة فهذه الحركة اليوم لم تخرج أفضل ما لدى المواطن العربيّ بل أخرجت صورا مشوهة عن جانب يعتقد العربيّ أنّه موطن القوّة الوحيد الذّي بقي لديه فمن رحم الصور المشوهة للعقيدة ولدت داعش أو الدولة الاسلامية في العراق و الشام  ومن رحم تمثلاّت العربيّ المشوهة للعقيدة أيضا بات العربيّ المسلم يرى في تمظهر القوّة العنيفة ما يخجله أمام العالم المدافع عن حقوق الانسان.
و بالحديث عن حقوق الانسان يمثل المواطن السوريّ تحت مجهر الإعلام، فلم يسبق أن عاشت بلاد الشام في تاريخها المعاصر دمارا مشابها لذاك الذّي تعيشه اليوم، حركات برقية من الفوضى تغتال المواطن السوريّ وتسلّط على حاضره عددا كبيرا من الكوابيس، هل كان على المواطن السوريّ بما لديه من سماحة وخصال تسامح نبيلة أن يركب موجة المواجهة حتّى يكتشف إلى أيّ مدى يمكن أن تفلت الأمور من بين يديه في حركته تلك؟ هل كان على المواطن السوريّ أن يقتحم في حركة اراديّة عالم الانتفاضات الكبرى حينا والوهمية أحيانا حتّى يدرك أنّه اختار طريقا طويلا للتحرّك ضدّ الأضداد في مربّع جغرافيّ واحد شأنه في ذلك شأن كلّ الشعوب العربيّة التي اتخذت مسارها الثوري دون إعداد مسبق أو توقع يذكر لخطوات تلي تحرّك البراكين الشعبية وفورتها.
حركة الموت الاضطراريّ..ضجيج الحياة

على أرض سوريا تفتت الحلم الثوريّ و نبتت مخالب المصلحة الدولية ..حركة النّظام السوريّ في حدّ ذاته كانت تردع في العمق حركة منفصلة عن جوهر الأحداث، حتّى حركات الحبّ لوطن يعيش مأساته بين نظام ديكتاتوريّ و عنف مسلّح يتدفق من كلّ حدب وصوب بمباركة عربيّة وأجنبية كانت تحمل قوّة ظاهرة داخل ضعف نخر.  
العرب في تحركاتهم وانتفاضاتهم اليوم يجربون طعما جديدا من التحركات فإذا كان اليأس والقهر والفقر والرغبة المضنية لتغيير الواقع الجاثم على صدر العربيّ محرّكات كافية للارتماء بين أحضان الموت فإنّهم استغرقوا كثيرا من الوقت كي يجربّوا مذاق هذه الحركات الفوضوية ظاهرا والمنضمّة في العمق، إذ لا يخفى على العرب أنّ فلسطين كانت سباقة إلى تذوّق طبق الموت الاضطراريّ ومازالت، يكفي أن نلقي بالا إلى أحداث غزّة في شهر رمضان الأخير 2014، لنعلم أنّ موت الحركة يخلق شعبا نائما فيما حياة الحركة قد تفرز شعبا لا يهاب الموت أو لنقل شعبا يقتل لذات السبب.
هو الضجيج ذاته الذّي جعل شعوبا تتحرّر من الاستعمار في القرن العشرين  وهو الضجيج ذاته أيضا أو يكاد الذّي خلّص شعوبا من الديكتاتورية الغاشمة على غرار تونس و مصر و اليمن في القرن الواحد و العشرين وهو الضجيج الذّي تحدّث عنه مالكوم اكس حين قال : لقد تعلّمت باكرا أنّ الحقّ لا يعطى لمن يسكت عنه وأنّ على المرء أن يحدث بعض الضجيج كي يحصل على ما يريد.
هو ذات الضجيج الذّي أحدثه أيضا أحفاد عمر المختار الذّي قال : نحن قوم لا نستسلم ننتصر أو نموت، مات الكثيرمن الليبيين في محاربة نظام معمرّ القذافي ربّما كان أملهم من وراء هذا التحرّك أن تتغيّر ليبيا وأن تصبح منارة للعلم والثقافة عوض الالتزام بكتب خضراء من صنع حاكمها الغاشم.
 تحرّك الليبيين أيضا كان تعبيرا عن حركة اعتملت داخلهم فجأة بهدف القضاء على اسباب الديكتاتورية ولخلق آراء مختلفة حتى تزهر صحراء ليبيا بخيرة شبابها لكنّ قوّات الناتو كانت قد تحرّكت بنسق أسرع من نسق حركة الحلم الثوريّ لدى الشباب الليبيّ لتؤسس لجوّ خانق من الفوضى تحيل عليه تعفنات الوضع الحاليّ من اغتيالات لنشطاء المجتمع المدنيّ وأخبار مقتل المثقفين الليبيين داخل منازلهم في محاولة لقتل الحركة المثمرة داخل عقول هؤلاء بل لنقل لاغتيال الحلم في المهد.

حين ينظر العربيّ اليوم إلى مرآته اليوم يراها مكسورة و مجزأة،و لسائل أن يسأل : هل تحركت المشاعر المكبوتة النائمة داخل العربيّ منذ سنوات لتدقّ مسمارا جديدا في نعش حلمه ؟ هل عاش فوضى تحركاته تلك كي يستتب وضع المجتمع وتشتدّ عماد الدولة أم أنّ تحركاته كانت ضربا من ضروب الفوضى والأوهام انهارت معها كلّ آماله وتساقطت كأوراق الخريف في ربيع قيل أنّه عربيّ؟
هل ندم العربيّ حين تحرّك أم أنّ حركة فراره الكثيفة نحو الدول الغنية و المتقدّمة في الآونة الأخيرة كافية لتعكس صورا من سخطه على واقع التحركات التي اقترفها بيديه ؟
أسئلة عدّة قد لا نملك أن نجيب عنها في الوقت الراهن يكفي أن نجد للعربيّ اليوم حركة دائرية تعيده إلى مواطن الأمل والحلم من جديد حينها فقط سيشير العربيّ إلى نفسه في حركة واثقة قائلا : هناك سحر ينبع منّي حين أرى شيئا و أسميه باسم شيء آخر.

سميّة بالرّجب

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire