vendredi 13 juin 2014

ثورة ثقافيّة على خشبة المسرح التونسي


ما أشبه اليوم بالأمس !
* المسرح * و في كتب التاريخ قيل عنه إنّه سليل الاحتفالات الدينية و الاحتفاء بطقوس التعبّد البائدة زمن الاله أوزوريس، فنّ عرفته العهود السابقة في أبهى تجليات الابداع الفكريّ ليصل ذروته في تجسيد الدراما الاغريقية و يبلغ أوجه في القرن الخامس قبل الميلاد على ركح الحضارة في اليونان قادما إلى العصور الحديثة متقلبا بين عصر الانوار والتجارب الغربية المختلفة متسرّبا إلى الروح العربيّة ومتغلغلا في تجسيد مآسي البشر  لينوبهم في بثّ همومهم و البوح بخبايا نفوسهم في الحبّ والحرب والثورة بكلّ ألوانها وتفاصيلها .

وهاهو اليوم في تونس و بعد رحلة كفاح طويلة عايشها عشاقه ليبقى فتيله منيرا في بلادنا يحمل في ثناياه أوجاع المواطن التونسيّ و يضع اصبعه الهلاميّ على مواضع الدّاء الثوريّ، فمنه ما كان وقتيا سياسيّا أو ايديولوجيّا ومنه ما كان مزمنا أو لنقل مرضا اجتماعيّا أو ثقافيا عضالا ومن روّاده اليوم بعيد الثورة من إذا شهد شيئا من المسرح التونسيّ تنهدّ في سرّه وقال : * ما اشبه اليوم بالأمس !*.


أبو الفنون التونسيّ و تقلبات التاريخ 

أبو الفنون و أوّلها لقب يطلقه كلّ من خبر المسرح أي تلك الوسيلة الوحيدة لتجسيد حريّة التعبير الفنيّ بعد حلبات المصارعة و منافسات قصب السبق منذ العهود الغابرة زمن الإغريق و الرومان، ليتقلب المسرح في صيغه المتباينة بين الحضارات المختلفة و بعد صولات و جولات في الفضاءات الفنيّة الغربيّة في أوروبا و غيرها من الدول.
 إذ تفرعت أشكاله  وأجناسه  ليصل إلى العالم العربي متثاقل الخطى حاملا معه جمالية الحسّ الابداعيّ و رونق التحرّر من قيود الذوات المنكسرة مصدّرا نور الانفتاح و التحضّر إلى العقول المتصلبّة ليرتطم بعامل التديّن حينا و يصطدم بواقع المجتمعات الشرقيّة المحافظة أحيانا ،إذ أعاد التونسيون اكتشاف المسرح عن طريق الفرق الايطالية و الفرنسية التي كانت تفد على البلاد لتقدّم عروضا باللغات اللاتينية- أي قبل انتصاب الحماية الفرنسية - سنة 1826 حسب بعض المؤرخين التونسيين- حاملة روح الثورة الفرنسيّة و الانعتاق الاوروبيّ من واقع التحجرّ باسم الكنيسة و تحت مسمّى ظلّ الله في الأرض .
 أمّا سنة 1908 فهي تاريخ قدوم الفرق المصريّة التي توافدت على تونس لتقدّم عروضا باللغة العربيّة في بلادنا لعلّ من أهمّها فرقة الفنان المعروف سليمان القرداحي الذّي أثار بمسرحياته اهتمام الشباب التونسيّ بالفنّ الرابع في زمن كانت محاولات فرنسة البلاد قائمة اي زمن الحماية الفرنسية و تقول بعض المصادر التاريخية أنّ قدوم هذه الفرق المصريّة كانت عاملا أساسيّا في تأسيس أوّل فرقة مسرحيّة تونسيّة مصريّة عرفت باسم * الجوق المصري التونسي* و ذلك بعد وفاة الفنان سليمان القرداحي بمدينة تونس و مكوث أعضاء فرقته لمدّة طويلة نسبيا في العاصمة التونسية .

و كان حضور العنصر النسائيّ في فرقة القرداحي و بقاء الممثلات بعد وفاته ثورة مسرحيّة في تونس ودافعا لتقديم عروض مشتركة و متكاملة من حيث الحضور الفعلي للنساء لتعبّر إذ تشير بعض الدراسات حول الفنّ الرابع في العالم العربي  إلى أنّ العنصر النسائي في المسرح العربي كان مغيّبا و ذلك لضرورات ثقافيّة و قيود اجتماعيّة فلم يكن يسمح للمرأة في تلك الحقبة التاريخية بتجسيد أدوار على الركح أو مواجهة الجمهور أمّا في مصر فكان الأمر أكثر ليونة نسبيا و ذلك لامتهان فنانات مسيحيات للفنّ فلم يكن المجتمع يرفض ما يقدّمنه لاعتبارات عقائديّة صرفة كونهن نساء غير محجبات و كانت أوّل فنانة مسلمة تقوم بالتمثيل في مصر هي الفنانة منيرة المهديّة و يقابلها في تونس المطربتان زبيدة الدزيرية و عائشة الصغيرة .

و رغم كثرة المسارح التّي خلفتها الحضارة القرطاجنية و الرومانية و البيزنطية أي تلك الشامخة في قرطاج و جيكتيس و بلاريجيا و الجم و دقة  في ربوع بلادنا  إلاّ أنّ تونس العربيّة الرازحة تحت براثن الاستعمار الفرنسيّ آنذاك لم تشهد اطلالة مسرحها التونسي إلاّ بعد سنة 1912 التي شهدت تكوين أوّل فرقة مسرحية تونسية صميمة ضمن جمعيّة الشهامة العربيّة التّي جاءت خلفا لتجربة تونسية قيمة في تكوين مسرح تونسيّ صميم أي تكوين جمعيّة * الآداب* التي كان يرأسها آنذاك المناضل حسن قلاتي وكان كاتبها العام باللغة العربيّة المناضل عبد العزيز الثعالبي و الصادق الزمرلي باللغة الفرنسية فانطلق المسرح التونسيّ بذلك ليرسم ملامحه و يجدّد روحه القديمة .

المسرح التونسي الصميم
يقول المؤرخون أنّ سنة 1913 شهدت عرض أوّل مسرحيّة بملامح تونسيّة وهي مسرحية *الانتقام* التّي ألفها آنذاك الشيخ مناشو و تقول بعض المصادر الأخرى أنّ أوّل من كتب مسرحيّة بنصّ تونسيّ هو محمّد الجعايبي الذّي ألف مسرحية عن السلطان عبد الحميد الثاني الذّي عزل عن الحكم و عنونت المسرحية ب* السلطان بين جدران يلدز*و كأنّ عروض المسرح التونسيّ تخاطب حاضرا يعيشه التونسيون اليوم بين مدّ و جزر، فكانت جلّ المسرحيات التّي قدّمت في بداية القرن العشرين باللغة العربيّة الفصحى إمّا تأليفا أو ترجمة أو اقتباسا و كانت مستوحاة من البطولات العربيّة القديمة وكانت الأعلام العربيّة القديمة في الدّول العربيّة والاسلاميّة من حكّام عرفتهم البلاد التونسيّة تحظى بتركيز الكتاب و المؤلفين في انتاج نصوصهم المسرحيّة أي ما يعرف اليوم بالمسرح الكلاسيكي.
و قد تكاثر عدد الفرق المسرحيّة في تونس في العشرينات و بدأت بوادر مزاحمة اليهود و الفرنسيين و الإيطاليين المسيطرين على الاستثمار في المسرح و السينما تظهر بقوّة و نخصّ يالذّكر تجربة علي بن كاملة الذّي أسس قاعة للعرض المسرحي بالعاصمة و فرقة مسرحيّة ضمّت كلاّ من حبيبة مسيكة والحبيب المانع و غيرهم قبل أن تباع هذه القاعة إلى علي بن سلامة صاحب مقهى *تحت السور* المكان الذّي احتضن مبدعين تونسيين أجلاّء كانت ابداعاتهم تؤسسّ لثورة شعب على كلّ مظاهر الظلم و الحيف و الاستبداد و تنادي بالتحرّر و الانعتاق من كلّ مظاهر التخلّف و الانحطاط و التمسّك بالكرامة و الحرية التونسيتين .

و كان تزايد اهتمام التونسيين بالفنّ الرابع في الثلاثينات قد مهدّ الطريق أمام انتعاشة نوعيّة للمسرح التونسي و تأسيس هياكله الوطنيّة بعد الاستقلال و من أبرز الأسماء التي ظهرت على خشبة المسرح التونسي قبل الاستقلال يذكر بعض الكتّاب ظهورا مميزا للهادي الأرناؤوط ومحمد عبد العزيز العقربي و خليفة الاسطنبولي.
أمّا ما بعد الاستقلال فكانت الفرقة البلدية بتونس من أهمّ الفرق التي تميزت بانتجاها المسرحيّ إذ ضمت هذه الفرقة أسماء توجها المسرح التونسي المعاصر مثل علي بن عياد فقد أحدث هذا الفنان ثورة في المسرح التونسيّ ليقدّم عددا من المسرحيات الهامّة لعلّ من أبرزها : مسرحية عطيل و مدرسة النساء و مراد الثالث و صاحب الحمار و مسرحية يارما.
 و في فترة الستينات دعا الرئيس الحبيب بورقيبة في خطاب له إلى الاهتمام بالمسرح لما له من دور في توعية الشعب و كانت البداية ببعث المسرح في المدارس الابتدائيّة و الثانويّة ثمّ ظهوره في الجامعات التونسيّة لتبرز فيما بعد الفرق الجهويّة المحترفة في صفاقس و سوسة و الكاف و قفصة لتواصل الأسماء الفنية التّونسية في مجال المسرح رحلتها الابداعيّة في السبعينات و الثمانينات  التي شهدت ظهور مؤسسة عموميّة عريقة هي المسرح الوطني التونسي الّذي تأسس بمقتضى القانون عدد 118 في سنة 1983 وصولا إلى التسعينات و الألفية الثانية و في كلّ عقد كانت تظهر زهور مسرحيّة شابّة مؤمنة بقوّة المسرح و سحره و قدرته على تجسيد هموم النّاس و بثّ مظالمهم و إعادة تنشيط الذاكرة الوطنية وتوعية الشعب و تركيز مبادئ الانسانية و الحرية و قيم العدل و التسامح .
أمّا الثورة التونسية / 17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011 / التي جاءت لتهدم أسوار الحكم البوليسي في تونس و تقضّ مضجع حرّاس التضييق على الحريات و خاصة منها حريّة التعبير أي رئة المسرح الأساسيّة فكانت ثورة الحريّة و الكرامة  فاتحة جديدة لعودة صادمة للمسرح التونسي.
الثورة و ما بعدها في عيون المسرح
     كثيرون هم من يرون في الثورة الثقافية مولودا شرعيا للثورة الشعبية و ذلك نتيجة افرازات تاريخية لتجارب ثورية سابقة كالثورة الفرنسية مثلا أو ثورات بلدان أوروبا الشرقية أو ثورات أمريكا اللاتينية أو غيرها من الثورات في العالم ولكنّ موعد قدوم هذا المولود الثقافيّ في تونس كسليل شرعيّ للثورة الشعبية التّي نادت بإسقاط صنم الديكتاتوريّة في تونس جاء متأخّرا نوعا ما إذ لم يكن قطاع الثقافة حسب عديد النقاد التونسيين و العرب -الذّين شهدوا أيضا ثورات في بلدانهم – بذاك القطاع الفاعل في الثورة إذ كانت قوى الشعوب تدفع باتجّاه التركيز على الجوانب الاقتصادية و الاجتماعيّة المتدهورة في تلك الدّول العربيّة و أوّلها تونس لذلك لم تكن الأعمال الفنيّة سريعة التجاوب مع ما يجري من أحداث متسارعة  وحراك سياسيّ و حتّى ما كان يقدّم من انتاجات فنيّة على المستوى الموسيقي و الشعري لم يكن بارزا إلى حدّ كبير.

 فالأعمال المسرحيّة التّي قدّمت بعد الثورة لم تكن تناقش بالشكل المطلوب على الأقلّ المشاكل العميقة للتونسيّ فبعضها ذهب إلى البحث عن الاضحاك و التسلية و بعضها ذهب إلى تقديم انتقادات في شكل أحكام ذاتيّة أو في قوالب جاهزة و بعضها الآخر كان عبارة عن عروض الممثّل الفرد أي /الوان مان شو/ ليضيع في تقديمها رونق المسرح بكلّ تفاصيله القديمة من شخوص تتحرّك على الركح مجتمعة لتجسّد لوحة مسرحيّة تتناغم فيها ملامح الوجوه و تعبيراتها مع سرعة الحركة أو تباطؤها مع المنطوق من النصّ بأصوات حقيقيّة و نغمات و نبرات مميّزة لأصحابها من الممثلين إضافة إلى ما تقوم به الإنارة من دور في خلق البعد الجماليّ للمشهد أو لنقل الظلّ الجميل لأصحابه.

و بالتّركيز على النّصوص المسرحيّة فإنّ المعالجة الحقيقيّة لواقع ما على خشبة المسرح تتطلبّ من الكاتب معايشة حقيقيّة و موضوعيّة لهموم شعبيّة أو ظروف معينّة للثورة و ما بعدها خاصّة في خضم تجاذبات سياسيّة واختلافات فكريّة جعلت من المواطن التونسيّ موضوعا مهمّا للبحث فليس المسرح في نظر محبيّه سوى مرآة تعكس آلاما دفينة يعجزون عن التصريح بها أو آلام معلن عنها لكنّها تضيع في زمرة الحديث عن مصالح ضيقة لرجال الأعمال أو السياسيين أو التابعين ممن تعريهم رسالة المسرح فتكشف وجها غائبا للرأسمالية أو أجندة خفيّة من عوالم السياسة أو واقعا مرّا من حالة التشرذم الفكريّ أو الازدواجية المرعبة في شخص الحاكم أو استقالة صريحة للمسؤول من واقع يدير خيوطه .

*فالمسرح الثوريّ* -أو هكذا عنّ لأحدهم أن يصفه - هو ما نراه اليوم في مسرحنا الوطنيّ التونسيّ وفي عروضه الجديدة، إذ بدأت عجلة الابداع تدور و بدأت مخيلّة المبدعين المسرحيين تتجه إلى مواقع  في المجتمع التونسي الرازح تحت هموم ثورته *المسروقة* فالمتابع لعدد من العروض اليّوم يمكن أن يستنتج أنّ الثورة الثقافية تأخرّت لكنّها لم تكن سوى ثورة نائمة تستيقظ الآن شيئا فشيئا لترسم ملامح جديدة للإبداع التونسيّ و تتوّج في زمن تمزّق الشرنقة الفكريّة انتاجا مسرحيّا هو خلاصة احساس عميق بهموم شعب ثائر.

* تسونامي * الرجّة بين الأمل و اليأس

إنّ المشاهد لعرض من عروض مسرحيّة تسونامي مثلا لفاضل الجعايبي و جليلة بكّار -و هما سليلا مسرح السبعينات و مؤسسيّ المسرح الجديد بتونس سنة 1976 – يمكن أن يتفطّن إلى عمق التناول الذّي خطته شخوص المسرحيّة و أصوات قارئي النصّوص إذ يتطرّق النصّ المسرحيّ المتقن لكاتبته جليلة بكّار إلى الظروف التّي عاشها المواطن التونسيّ ما بعد الحراك السياسيّ الذّي أطلقت عليه وسائل الاعلام في العالم  اسم الربيع العربيّ لتناقش الكاتبة في نصّها المسرحيّ احتقان الشارع التونسيّ و سخطه على الظلم و الاستبداد و تواصل الخوف من الآتي الذّي جسدته الوجوه الشابّة في المسرحية، شخوص ممزّقة بين الاصطفاف في صفّ الحلم الذّي انبعث من رحم الثورة ليبثّ آمالا عريضة في نفوس المواطنين  بحريّة وعيش كريم أو الاصطفاف في صفّ الاستبداد الجديد باسم الدّين أو هكذا يمكن أن تصل المعاني المجسدّة على الركح إلى المشاهد .
تسونامي هو تلك الرجّة التّي أعادت إلى التونسيّ و العربيّ بصفة عامّة وعيه بضرورة الخروج من النفق المظلم و بضرورة البحث عن مرافئ آمنة للأجيال القادمة من التونسيين بتكريس الحريّة و الكرامة و تحكيم العقل في فهم الفضاء الزمنيّ للأنا،و تركزّ المسرحيّة على اللغة السياسيّة في وسائل الإعلام و تبوّب لدور وسائل التواصل الاجتماعيّة في كسر حواجز الصمت أمام واقع انهيار النظام البائد و خروج الفرد التونسيّ من علبة القمع المحكمة الاغلاق .

تناقش المسرحية أيضا واقع ترحيل الشباب إلى سوريا و تسلّط الضوء على عمليات الدمغجة و دور السياسيين و المسؤولين في الترويج لصناعة الجهاديين و القنابل الموقوتة للإرهاب كاشفة عن صراعات شتى لعلّ من أهمّها صراع ما هو ديني و تصادمه مع ما هو حداثيّ و حقوقيّ و صراع المرأة مع ثقافة الغمر و الحجب التّي ظهرت بقوّة بعد الثورة إضافة إلى صراع الأنا مع عامل القيم و المبادئ و صراع الحبّ مع عقليّة التشدّد و التزمتّ .
و تدفع هذه  المسرحيّة المشاهد إلى طرح عديد الأسئلة حول المستقبل و كأنّها تنظّر في تفاعل الشخصيّة الرئيسيّة للمسرحيّة *حياة* مع الأحداث لسياسة جديدة لتعامل التونسيّ مع كلّ ما يدور حوله من أحداث سياسية و ثقافية و ايديولوجيّة و اقتصاديّة بشكل عقلانيّ و مواجهته لعوامل ابتزاز داخليّة وخارجيّة تزيد في تأزيم الواقع و دفعه نحو المجهول إذ لامست مسرحيّة تسونامي لبّ القضايا التّي عاشها و يعيشها التونسيّ بشكل تضافرت فيه كلّ العوامل لتبني عملا متوازنا و جادّا هو قلب المسرح الحديث.

الرهيب ابن الأغلب و عودة المسرح الكلاسيكي

رغم طغيان عروض *الوان مان شو* على قاعات العرض مؤخرا إلاّ أنّ المسرح الكلاسيكيّ قد سجّل عودة نوعيّة تمثلت في عرض مسرحيّة ذات طابع تاريخيّ على خشبة  المسرح الوطني التونسي حملت عنوان * الرهيب بن الأغلب* للمخرج محمد  منير العرقي الذّي حاكى في مسرحيته التاريخية واقعا تونسيا راهنا من خلال استحضار قصّة الحاكم الأغلبي «إبراهيم الثاني»  الذّي نسج المؤلف  عبد القادر اللطيفي خيوط نصها.
إذ تجسّد شخصيّة إبراهيم الثاني  فترة  هامة من تاريخ تونس و هي تلك الحقبة الدموية لحكم  أمير ديكتاتور إذ أسّس هذا الأمير لظهور وجه من أبشع وجوه الاستبداد في تاريخ البلاد التونسيّة متشبّثا بكرسي الحكم و كأنّ بهذه الشخصيّة تذكّرنا بما عاشه التونسيون زمن الاستبداد و الفساد أي زمن المخلوع.
 و تلخّص المسرحية المزدانة بجمال الأثواب و حسن الحضور الركحي لثلة من المسرحيين و الممثلين التونسيين مرحلة من تاريخ تونس الدموي طبعها حاكم من الأغالبة تصفه كتب التاريخ بالحاكم المختلّ الفاقد للعقل و الأمير الرهيب الذي حكم افريقيّة من سنة 875م إلى 902 سنة م ,إذ يجسّد المشهد الأوّل من المسرحية ليلة وفاة أمير افريقية و شقيق ابراهيم الثاني أبو الغرانيق إذ جاءت زمرة من أجلاء القيروان وسادتها يطلبون إلى الأمير ابراهيم الثاني أن يخلف أخاه في الحكم وذلك لما أحاط بهم من قلّة عدله و سوء تصرّفه في أموال العباد ولكن ابراهيم الثاني  رفض في البداية متعللا بمبايعة ابن أخيه، و تحت عامل الضغط من خاصّة القيروان الذّين ادعوا أنهم نوّاب الشعب و حاملو رسالته إليه قبل ابراهيم الثاني الإمارة على مضض .

و يأتي المشهد الموالي للمسرحيّة مخالفا تماما لتوقعات المشاهد إذ يتحوّل الأمير الذّي عرف عنه العدل إلى حاكم ظالم يبطش بكلّ من يعارض حكمه فمع فجر أول يوم يتولى فيه الإمارة سفك الأمير ابن الأغلب ابراهيم الثاني دماء كلّ من عارض بيعته من موالي ابن أخيه وقتل من أهله و من حاشيته الكثير و هو ما قاد الرعيّة إلى ثورة الدراهم والجياع بعد أن لحق بها من الجوع و كساد التجارة ما لحق و بعد أن شهدت من حاكم جبان يرفض أن يواجه رعيته خيفة أن ترجمه بالحجارة ما شهدت من افساد للمال و اسراف في بناء القصور. و هو ما قد يعيد إلى ذهن المشاهد التونسي صور شخصيات سياسيّة عدة وجدت قبل الثورة و بعدها و يذكّره ببعض التفاصيل القاسية التّي يعيشها في واقعه الراهن.

و كأنّ بالمشاهد لهذه المسرحية يقف أمام مفترق طرق أي أمام الحاضر و الماضي و المستقبل و كأنّ بالمسرحية تستعيد ما سلف من شخوص الماضي الفاعلة في التاريخ التونسيّ لترسم ملامح شخوص جديدة فاعلة في الحاضر التونسيّ بكلّ تجاذباته إذ تحاكي المسرحيّة الكلاسيكية الواقع الراهن في عدد من الجوانب لعلّ من أبرزها تسلّط الدولة على الرعيّة تحت عنوان الهيبة و التفرّد بالأمر و النهي إضافة إلى تقديم مصلحة الخاصّة على مصلحة العامّة و تهميش النّاس و تجويعهم و فرض الضرائب و الإتاوة و إثقال كاهل المواطن بالديون.

 و تطرح المسرحية مسألة العامل الدينيّ و تركّز على حادثة  تنصيب رجل من أهل الذّمة أمينا على خزائن المسلمين و هو ما يدفع بنا إلى البحث في واقعنا الراهن عن الصورة المقابلة المتجسّدة في الأقليات الدينية الموجودة في تونس و ما لحق بها من خطاب تمييز ظهر ضدّها في مظاهرات الاسلاميين و غيرها بعد الثورة.
و تسلط المسرحيّة الأضواء على المرأة التونسيّة في جانب منها فتضعها في موضعين متناقضين فالأوّل هو موضع المرأة القويّة الناصحة و الراجحة العقل و المتمثلة في دور أمّ الأمير ابراهيم ابن الأغلب و هو ما يحيل المشاهد على صورة المرأة التونسية الحقوقية و الثائرة على الظلم و الناصحة و المعينة و الحازمة و موضع ثان و هو ذاك المتمثل في دور المرأة الخانعة و المرأة الجسد و هو ما يدعو المشاهد إلى استحضار الصورة النمطية للمرأة في العالم العربي و الاسلامي من خلال تقييم دور تفاحة زوجة الأمير و دور جاريته وهما الصورتان اللتان ظهرتا بعد الثورة بشكل واضح في صراع بين خطاب الحداثة و خطاب العودة إلى الوراء.


و يفتح مشهد المشعوذ المغربي في المسرحية باب التفكير أمام المشاهد لنسج خيوط العلاقة بين القمع و الفقر و الاستبداد و الارضية السانحة للاستغفال و التدجيل و التحيّل و تتوّج المسرحيّة واقع الصراع في استحضار بوادر ظهور التحريض على دولة الأغالبة و ظهور الدعاة إلى حكم الفاطميين و يعيد هذا العمل المسرحي الحديث الاعتبار إلى اللغة العربية الفصحى باتخاذها لغة للنصّ المسرحي بعد هيمنة ملحوظة للهجة العاميّة على أغلب العروض المسرحيّة ما بعد الثورة.  



و تجسّد المسرحيات التونسية المحاكية للواقع التونسيّ ما بعد الثورة طموح المسرحيين وتشبثهم بروح الابداع  و تأكيدهم على دور المسرح في علاج القضايا الوطنية و الشعبية الكبرى و مدّنا بأعمال تتماشى و واقعنا الراهن المعيش و تحاكي هموم المواطن التونسيّ وأوجاعه و هو ما يظهر في تصريحات عديد المخرجين و المؤلفين و الممثلين في وسائل الاعلام إذ استفاق هؤلاء على واقع التحرّر من قيود الاستبداد و القمع المشطّ لحريّة التعبير لينطلقوا إلى مهامهم الكبرى في النقد و التحليل مرفرفين  بأجنحة جديدة للإبداع ليلتحقوا بركب الثورة الثقافيّة المتأخرّ.
سميّة بالرّجب

  

mardi 15 octobre 2013

الحجاب في الجامعات الفرنسيّة : صراع مع العلمانيّة ؟

لا تنفك قضيّة الحجاب في الجامعات الفرنسية بروزا على سطح الجدل السياسي و الاجتماعي و الثقافي في فرنسا، فالدّولة العلمانية التي اختارت نظاما قائما على تساوي جميع المواطنين في الحقوق و الواجبات و التي اعتبرت حريّة الدّين حقّا دستوريا تشهد اهذه الأيام تململا من بروز المظاهر الدّينية  في الفضاءات العامّة و خاصة في  الجامعات ليتحوّل التململ فيما بعد إلى  نقطة جدال كاد المجتمع الفرنسيّ أن ينساها بعد انقطاع أصداء القضيّة لمدّة طويلة لكنّها سرعان ما عادت لتثير نقاشات كبرى في وسائل الإعلام الفرنسية و في مجالس المثقفين الفرنسيين و في المجتمع الفرنسي بصفة عامّة.





توصية هامّة ضدّ الحجاب
اثنتا عشرة توصية هي مخرجات التقرير الأخير الذّي نشره المجلس الأعلى للاندماج في فرنسا نصّت واحدة من بينها على ضرورة منع جميع أشكال التمظهر الديني و كل ما يبرز الانتماء العقائدي في قاعات الدروس في الجامعات الفرنسية من الرموز و اللباس الذّي يبرز بصفة واضحة الانتماء الديني في قاعات الدروس و أماكن التعليم و البحث في المؤسسات العمومية للتعليم العالي و قد قام المجلس الأعلى للاندماج بالتأكيد على أهمية هذه التوصية رافعا إياها إلى مرصد اللائكية  في فرنسا أي الهيئة الوطنيّة المخولة للنّظر في مثل هذه الاشكاليات و هو ذاك المرصد الذي أطلقه الرئيس فرانسوا أولاند كمرصد جديد للعلمانية في شهر أفريل مطالبا إياه بأفكارا جديدة بشأن كيفية تطبيق القانون التاريخي الذي صدر عام 1905 والذي يهدف إلى حماية المجال العام من الضغوط الدينية مع احترام حرية الدين.
وتحدث تقرير المجلس الاعلى للاندماج  عن وجود  حالات اخلال كثيرة بقوانين الدّولة العلمانية  بتعلة الحريّة الدينية كطلب الاعفاء أو رفض الاختلاط من قبل بعض الطلبة  إضافة إلى حالات اعتراض على محتوى المناهج المقدّمة أثناء الدروس و هو ما أشار إليه مرصد اللائكيّة منذ أشهر محذّرا من تنامي الطلبات الطائفيّة و الدّينية داخل الجامعات و أشار المرصد أيضا إلى انّ بعض الجامعات تواجه مطالب تتعلّق بالقيام بأعمال دعويّة لنشر الدّين في الجامعات و المطالبة بأماكن للصلاة و احترام العادات الغذائيّة الاسلاميّة و خاصّة المحرّم من الأطعمة في الديانة الاسلاميّة".
 و كانت فرنسا قد قامت بحضر ارتداء الحجاب في المدارس سنة 2004 كما منعت ارتداء النقاب في الأماكن العامة عام 2010 و هو ما أثار آنذاك موجة غضب كبيرة بين صفوف المسلمين في فرنسا البالغ عددهم نحو خمسة ملايين شخص في ذلك الوقت.
ففيما يعبّر الأساتذة في الجامعات الفرنسيّة عن انزعاجهم من ظهور اللباس الدّال على الانتماء الدينيّ و خاصّة الاسلاميّ في قاعات الدروس التي يأمنونها و في مدارج المحاضرات يرى الطلبة المسلمون و خاصة الطالبات  أنّ خطوات حظر ارتداء الحجاب تحد من حريتهنّ في اختيار ما يرتدينه أي الحدّ من حريّة اللباس.بينما تتعلّل الحكومة الفرنسية بالدفاع عن علمانية الدولة والفصل بين الدين والسياسة حفاظا على مبادئ اللائكية الفرنسيّة.
و في الوقت الذي يتساءل فيه  البعض عن امكانية خرق حظر ارتداء الحجاب في الجامعات الفرنسية  للحريات الشخصية في فرنسا يحتج البعض الآخر مؤكّدا على حق السلطات الفرنسية في حماية علمانية الدولة ليبقى السؤال الأبرز مطروحا على طاولة النقاش في المجتمع الفرنسي "ما هي الصيغة المناسبة التي يجب اعتمادها للتوفيق بين ارتداء اللباس الطائفي و توخي الرموز الدينية  واحترام قوانين الدولة العلمانية ؟".

توترّ حادّ في الأوساط الفرنسيّة :
و قد بلغ الجدل حول هذه القصية أقصاه إثر تصريحات  وزير الدّاخلية "امانويل فالس" لجريدة "لوفيقارو"  الفرنسية التي ضمنّها  اهتمامه بالتوصيات المنبثقة عن المجلس الأعلى للاندماج  تاركا لمرصد اللائكيّة الفرنسيّ  الفرصة للاشتغال على المسألة و البحث عن حلول ناجعة لتفادي ايّ مضاعفات قد تنتج عن رفض الالتزام بقوانين الدولة و تقديم مقترحات توافقية.
بينما كان لوزيرة التعليم العالي  "جينوفياف فيوراسور"  رأي معتدل في المسألة  إذ ردّت الوزيرة على هذه التصريحات ناصحة بالتريث في البتّ في المسألة مؤكّدة على أنّ وزارة التعليم العالي الفرنسية  لم تتلق اي شكاوى حول الموضوع خاصّة و أنّ رؤساء الجامعات الفرنسية لا يحبّذون إرساء قانون جديد يتعلّق بالحجاب الطائفيّ يخصّ الجامعات العموميّة مثل قانون 2004 الذّي يمنع ارتداءه في المدارس.
بينما يسود داخل الأوساط الاسلامية في فرنسا تخوّف من استغلال القانون للتشهير بالدّين الاسلامي ّ، الأمر الذّي يسانده بعض السياسيين في صفوف المعارضة السياسية الفرنسيّة الذّين يقرّون برشاد و نضج الطلبة و ضرورة ترك  باب الحريّة مفتوحا أمامهم  خلافا للقاصرين من أبناء المدارس .
وحذر عدد من السياسيين أيضا من أن حظرا جديدا يلوح في أفق الجدل حول قضية الحجاب في الجامعات الفرنسية قد يحدث توترا كبيرا بين الحكومة الاشتراكية التي تدافع بقوة و حزم عن علمانية فرنسا وبين المسلمين الذين يستشعرون بوادر جديدة لعزلهم ومعاقبتهم بالاستناد إلى مثل هذه القوانين.
يقول "هيرفيه ماريتون" النائب عن حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية المعارض " علينا أن نجد التوازن الصحيح بين الحاجة إلى الحياد في المجال العام والاختيار الشخصي للتعبير عن معتقد ديني".
أمّا النقابات الطلابيّة فقد وجدت  نفسها في خضّم الجدل حول قضية الحجاب و الحرية الدينية داحل الجامعات الفرنسية في موقف حرج إذ كانت المواقف المقيّمة للوضع المتأزّم متباينة إلى حدّ بعيد و إن كانت أغلب المواقف ان لم يكن مجملها مقرّة و ملتزمة بالنّظام اللائكي في فرنسا كقانون منظّم للمجتمع لكنها لا تذهب في التزامها بلائكيّة الدولة إلى حدود سنّ قانون خاصّ بالجامعات لما فيه من امكانيات للطعن و التشهير بالدّين الاسلامي.
يأتي هذا الجدل في ظروف شهدت تصاعد التصريحات و ظهور الحركات المعادية للإسلام و المسلمين في أنحاء شتى من فرنسا ، فقد أعربت حركة "مساجد و مسلمين متضامنين" في فرنسا عن "قلقها" من النقاش الدائر حول الحجاب الذي "أخذ منحنا خطيرا" على حدّ تعبير ناشطيها  و ترى الحركة أن منع الحجاب في الجامعات الفرنسية العلمانية  قد يكون له "وقع عنصري لأن هذا المنع يستهدف المؤمنين المنتمين فقط للديانات المميزة باللباس و الأكل".
الصدمة الفرنسيّة
 تشير احصائيات سبر الآراء الذي قامت به مؤسسة "ايفوب" لصالح جريدة "لوفيقارو" الفرنسية  إلى أنّ 8 فرنسيين من أصل 10 فرنسيين أي ما يقارب نسبة  84 %   يرفضون ظهور الحجاب الاسلامي في الجامعات الفرنسية و أنّ 63 %   منهم  يريدون منعه في الفضاءات العمومية أيضا و هو ما أشارت إليه حركة "مساجد و مسلمين متضامنين" في بيان صادر عنها واصفة اياه بالحظر الاجتماعي المحدق بالمسلمين باسم القانون و أنّ قرار منع الحجاب في الجامعات قد يؤدي إلى ظهور موانع أخرى ضدّ المسلمين لاسيما ما تعلّق بمسألة الحياد في الخدمات العمومية الذي تؤطره اللائكية.
وحسب الاستطلاع الذي أجراه معهد أيفوب لصالح الجريدة فان 4% فقط من الذين شملهم يؤيدون السماح  بارتداء الحجاب في قاعات التدريس في مؤسسات التعليم العالي، بينما قال الـ18% الباقون أن لا رأي لهم في هذه المسألة.
وأظهر الاستطلاع أن الشبان دون 35 سنة هم أكثر انفتاحا على السماح بارتداء الحجاب من كبار السن المتقاعدين. وفي هذا السياق أبدى 86% من المتقاعدين رفضهم للحجاب مقابل 1% فقط من الذّين أيدوا السماح بارتدائه، في حين وافق 11% من الشبان مسألة ارتداء الحجاب فيما عارضه 63% منهم.
يأتي هذا الجدل في الأوساط الفرنسيّة بعد الصدمة الحادة التي تلقتها فرنسا إثر اكتشافها أنّ عددا من الفرنسيين الأصليين الذين اعتنقوا الاسلام قد التحقوا بالمجموعات الاسلامية الجهادية في سوريا ليؤديّ ذلك إلى استياء كبير في شرائح واسعة من الشعب الفرنسي الذّي بات يرى في الاسلام  بؤرة للإرهاب و العنف ومصدرا للكراهية  و العداء.
و يبقى الجدل حول قضية الحجاب في الدولة العلمانية متواصلا في انتظار صدور تقرير مرصد اللائكية للبتّ في هذه القضية الشائكة التي ما انفكت تستولي على اهتمام الفرنسيين من سياسيين و مثقفين و مواطنين عاديين  إذ ينتظر أن يتمكنّ أصحاب القرار في فرنسا في ضوء ما سيأتي به التقرير من بلورة سياسة جديدة تنظّم تطبيق قوانين النّظام اللائكي في الجامعات و في غيرها من الفضاءات الاجتماعية و الاقتصاديّة العمومية الأخرى فهل ستتمكن الدولة العلمانية الفرنسية من فرض هيمنتها على تمظهر دينيّ ما ينفك يراوغ كلّ القوانين الصارمة بحثا عن ضوء أخضر لمريديه ؟
سميّة بالرجب
تونس


شنغاي أسئلة الترتيب العالمي للجامعات !

            ترتيب شنغاي أو بعبارة أوضح التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم لمن لا يعرف مأتى التسمية  و جذورها الأولى هو  ترتيب من أهمّ تسع ترتيبات أكاديمية للجامعات في العالم  أطلقته  جامعة   شنغاي جياو تونغ الصينية  ليضم هذا الترتيب خيرة مؤسسات التعليم العالي و ليصنّف كبرى الجامعات في العالم بشكل مستقل ويخلق جوّ من التنافس العلمي و الأكاديمي فيما بينها  إذ يقع ترتيب هذه الجامعات وفقاً لصيغة محددة قوامها عدد من المعايير الصارمة و المضبوطة .
قصّة ميلاد ترتيب شنغاي :
انطلقت تجربة ترتيب الجامعات من الولايات المتحدة الأمريكية منذ بدايات العقد الثامن من القرن الماضي لكنّ الترتيب لم يتجاوز الحدود الجغرافية للولايات المتحدّة و هي أولى التجارب في الترتيب الأكاديميّ في العالم، أمّا الترتيبات العالمية فقد بلغ عددها إلى حدّ الآن تسع ترتيبات في انتظار الترتيب العالميّ الجديد الذي يعتزم الاتحاد الأوروبيّ اطلاقه في الأيام القادمة، الترتيب العالمي شنغاي فتعود نشأته إلى قرار اتخذه رئيس جامعة جياو زونغ jiao zong  بارسال ثلّة من خيرة طلبة جامعته الصينية لمواصلة دراستهم بأحسن المؤسسات الجامعية في الجامعات الأجنبية ليطلب من الكيميائي Nian Cai Lin نيان كي لين إعداد ترتيب لأفضل الجامعات في العالم ليتواصل اعداد هذا الترتيب سنويا و يصبح من أكثر الترتيبات الأكاديمية شهرة في العالم و ليتحوّل الاعلان عن نتائجه سنويا إلى حدث عالميّ بارز في الأوساط الأكاديمية.
أمّا بعض المقيمين لتجربة ترتيب شانغاي  فيرون أنّ  الهدف الأساسي من وراء اطلاق الصين  لمثل هذه الظاهرة الفريدة في تصنيف الجامعات فهو تحديد موقع الجامعات الصينية في مجال التعليم العالي ومحاولة تقليص الهوة فيما بينها وبين أفضل الجامعات النخبوية في العالم تماهيا مع التجارب الرائدة في البحث العلمي و الأكاديمي.
و بالنظر إلى ما اكتسبه هذا التصنيف ذو الجذور الصينية من شهرة فإنّ المعايير الموضوعية التي يقوم عليها هذا التصنيف جعلته يحتل أهمية عند الجامعات التي أخذت تتنافس و تتسابق حتى تفوز بمراتب متقدّمة في الترتيب و  حتى تضمن سمعة علمية عالمية متميّزة إذ يستند  هذا التصنيف إلى معاينة ألفي جامعة في العالم من أصل قرابة عشرة آلاف جامعة مسجلة في منظمة اليونسكو الأمميّة أي تلك الجامعات ذات  المؤهلات الأولية للمنافسة حسب ما تضبطه قواعد التصنيف  .
أمّا الخطوة الثانية من عمليّة معاينة مستوى الجامعات المؤهلة لدخول التصنيف العالمي فهي  اختيار ألف جامعة فقط منها بحيث تخضع هذه الجامعات مرة أخرى لمبدأ المنافسة  و التسابق نحو الحصول على مركز في أفضل 500 جامعة و بهذا يتّم نشر التقرير النهائي لتصنيف شنغهاي و قد تضمّن ترتيبا تفاضليا لأفضل 500 جامعة في العالم رغم الجدل الكبير الحاصل و المتواتر في وسائل الاعلام عقب كلّ تقرير حول الخصوصية التي يتفرّد بها ترتيب شانغهاي دونا عن الترتيبات العالمية الأخرى في نفس المجال و حول الأسباب العميقة التي تجعل هذا الترتيب أهمّ ترتيب في العالم رغم وجود عدد آخر من الترتيبات الأخرى التي تضاهيه من حيث طبيعة المجال و مسار التصنيف.
معايير الترتيب : عرض و قراءة .
و بالعودة إلى طبيعة المعايير المرصودة لهذا الترتيب فإنّ ترتيب شنغهاي يضع معيار الجودة في المقام الأوّل أمّا عدد المعايير المعتمدة لقياس كفاءة الجامعات وجودتها في هذا التصنيف فهي أربعة معايير أمّا المعيار المتبع الأوّل فهو مؤشر خريجي الجامعة من الحاصلين على جوائز نوبل ما عدى جائزة نوبل للآداب و السلام وأوسمة فيلدز وتبلغ حصّة هذا المعيار من  المجموع النهائي في تصنيف الجامعات  نسبة 10%.
أمّا المعيار الثاني فيستند إلى مؤشر يعنى الحاصلين على جوائز نوبل وأوسمة فليدز من هيئة التدريس و تصل نسبة هذا المعيار من المجموع النهائي للتصنيف إلى 20%، ويعتمد هذا المعيار مؤشر الاستشهاد بالباحثين الأكثر تميّزا في 21 تخصصاً علمياً وتصل نسبة هذا المؤشر إلى 20%.
و تعدّ مخرجات البحث المعيار الثالث في تصنيف شنغهاي إذ يعتمد هذا المعيار على مؤشر المقالات المنشورة في مجالي الطبيعة والعلوم لتكون نسبته من النتيجة النهائية للتصنيف 20%،و أيضاً تلك المقالات الواردة في دليل النشر العلمي الموسع ودليل النشر للعلوم الاجتماعية ودليل النشر للفنون والعلوم الإنسانية و تصل نسبة هذا المؤشر في التصنيف إلى  20%. أمّا المعيار الرابع و الأخير فهو لا يعد أن يكون حجم المؤسسة أي ذاك المؤشر الدّال على الإنجاز الأكاديمي مقارنة بباقي المعايير الثلاثة المذكورة آنفا و يبلغ نسبة 10% من مجموع النتيجة النهائية في التصنيف.
و بهذا تكون المعايير مضبوطة على الشكل التالي إذ تضمّ جودة التعليم 10 % من المجموع النهائي للتصنيف بينما تستحوذ جودة هيئة التدريس على نسبة 40 % و كذلك معيار مخرجات البحث الذي يحتل نسبة 40 % من معايير التصنيف الجملي بينما يقتصر حجم المؤسسة على 10% فقط من المجموع النهائي للتصنيف العالمي للجامعات في العالم.   
و من الجليّ مما تقدّم أنّ جميع المعايير المذكورة خاضعة إلى مقياس الجودة لكنّها لا تهتّم في الحقيقة إلاّ بجانب واحد من الجودة ألا و هو جودة البحث العلميّ بينما لا تمثّل جودة التعليم أيّ معيار من المعايير المعتمدة في تصنيف و ترتيب الجامعات حسب ترتيب شانغاي و لا يختلف اثنان حول العلاقة الجدلية التي تجمع جودة التعليم بجودة البحث لا سيّما اذا ما اعتبرنا أنّ الجامعات في العالم في حقيقة الأمر نوعان فبينما يهتمّ النوع الأوّل بجودة التعليم يهتّم النوع الثاني من الجامعات بتهيئة الخريجين لدخول عالم البحوث.
و لا بدّ من الاشارة هنا إلى أنّ المجالات المعتبرة في ترتيب شانغاي هي مجالات علميّة بالأساس أي تلك الاختصاصات التكنولوجية و الخاصّة بعالم الكيمياء و الفيزياء و الرياضيات و نحوها من العلوم الصحيحة بينما لا تحظى العلوم الانسانية إلاّ بحيّز بسيط و ضئيل في معادلة الترتيب ناهيك عن مسألة لغة البحث و هيمنة الجامعات الانقلوسكسونية على غيرها من الجامعات المعتمدة للغاتها المحليّة و ذلك لتفوّق تسجله اللغة الانقليزية في هذا العصر
 نتائج تصنيف شنغهاي  2013 :

رغم أنّ التصنيف الأكاديمي العالميّ شانغهاي كان عصارة مبادرة صينية و سنوات متتالية من العمل الجاد إلاّ أنّ الجامعات الأمريكية و غيرها من الجامعات الأخرى في العالم و منذ انطلاق التصنيف بقيت تتصدّر الترتيب دونا عن الجامعات الصينية فقد حظيت الجامعات الأمريكية بنصيب الأسد من الترتيب لسنة 2013  إذ اختيرت 149 جامعة أمريكية من أصل 500 جامعة لتكون في الترتيب النهائي لأفضل 500 جامعة في العالم فيما احتلت 17 جامعة أمريكية من بينها المراتب الأولى من أصل 20 مرتبة .
إذ تصدّرت جامعة هارفارد و ستانفورد و جامعة  كاليفورنيا - بركلي و جامعة مايتي للتكنولوجيا Massachussetts  المراتب الأربع الأولى في الترتيب فيما احتلت جامعة كمبريدج البريطانية المشهورة المرتبة الخامسة و تحظى جامعة أكسفورد  البريطانية بالمرتبة العاشرة . و قد حظيت بريطانيا هذه السنة بإدراج 37 جامعة من جامعاتها في الترتيب خلافا لسنة 2007 إذ كان نصيبها من الترتيب 42 جامعة فيما احتلّ  معهد التكنولوجيا زوريخ من الفدرالية السويسرية المرتبة العشرين بينما بلغ عدد الجامعات السويسرية التي وصلت إلى مرحلة الترتيب النهائية 7 جامعات فقط  .
امّا  اليابان فقد حظيت جامعاتها بنصيب متميّز أي 20 جامعة من أصل 500 جامعة.و أمّا الجامعات الصينية فقد حظيت بتصنيف 28 جامعة في الترتيب النهائيّ لسنة 2013  كما حظيت الجامعات الأوروبية بنسبة محترمة من الترتيب رغم أنّها تعتبر متأخرة من حيث المراتب مقارنة بالسنوات الفارطة التي احتلت فيها الجامعات الفرنسية و الألمانية مراتب محترمة في تصنيف شانغهاي العالمي وهو ما أدّى بالفرنسيين خاصّة إلى وصف التصنيف على أنّه  تصنيف مشكوك فيه أو بمعنى أدّق تصنيف لا بدّ من إعادة النّظر فيه و هذا ما يبينه مقال جريدة لوموند الفرنسية الأخير حول تصنيف شنغهاي إذ ينقل المقال لقراء الجريدة شكوى الجامعيين الفرنسيين و تألّمهم الصريح من تفوق الأنقلوسكسييين عليهم و من تميّزهم المشطّ في الترتيب.
مركز جامعات العرب .. نقطة استفهام 
و فيما يخصّ الجامعات في الدّول العربية و الاسلاميّة فقد ترشحت 3 جامعات من المملكة العربية السعودية للتصنيف النهائي  رغم تأخّر مراتبها في الترتيب و هي حسب تواترها في التصنيف هي جامعة الملك عد الله للعلوم و التكنولوجيا و جامعة الملك فهد للبترول و المعادن و جامعة الملك سعود،  فيما غابت دول عربية عرفت بمستوى التعليم فيها كالجمهورية العربية المصريّة و الجمهورية التونسية و المملكة المغربية و لبنان عن الترتيب و لسائل أن يسأل عن هذا الغياب الدائم للجامعات العربية في السنوات الأخيرة رغم أنّ جامعات عربية كجامعة القاهرة مثلا كانت ضمن التصنيف سنة 2007.
فالجامعات السعودية كما هو معروف تعتمد في التكوين و البحث و التأطير على كفاءات أجنبية منها بالأساس كفاءات عربية من الأساتذة و الباحثين هم زبدة ما تنتجه الجامعات العربية السالفة الذكر و الغائبة تماما في تصنيف شانغهاى لهذه السنة و من الجدير بنا الاشارة إلى أنّ الجامعات السعودية حسب آراء بعض الجامعيين الأجانب حول ظهور الجامعات في الترتيب الذين أشاروا في استنكار صارح لما تبذله الجامعات السعودية  من المال في سبيل الاحراز على مراتب في تصنيف.
 أمّا بالنسبة إلى  الدّول الاسلامية فقد احتلت تركيا مكانا يتيما في الترتيب بتصنيف جامعة اسطنبول في المرتبة 401 بينما  حظيت اسرئيل بستّ مراتب لجامعاتها رغم يفوع هذه الجامعات و حداثة انبعاثها و هي مراتب متأخرة في الترتيب عن تلك الأوروبية و الآسيوية و الأمريكية.
شنغهاي و معضلات جامعاتنا :

و مهما يكن من أمر فإنّ التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم شنغهاي  يبقى مثيرا الجدل على مستويات عدّة خاصة و أنّ الاختلاف المذهل بين الجامعات في العالم من حيث الامكانيات المتاحة للتعليم و البحث و من حيث البرامج المتبعّة في التدريس و الخبرة التي اكتسبتها الجامعات الطاعنة في السنّ خاصّة تجعل المقارنة بين الجامعات اليافعة و الجامعات الضاربة في التاريخ مقارنة مأساوية بل إنّ المقارنة بين جامعات تستقطب العقول و الكفاءات العالمية كالجامعات الأمريكية و جامعات مازالت تعاني من غياب المجلات الجامعية المحكمة محليّا و وطنيّا في مختلف الاختصاصات تجعل من المعايير المتبعة في تصنيف شنغهاي محلّ مسائلة و انتقاد ، أمّ المعيار الأبرز الذي قد يجعل من المقارنة بين الجامعات على مختلف مشاربها و اختصاصاتها أمرا يضيق به المطلعون على نتائج التقرير فهو معيار الحصول على جائزة نوبل لدى الخريجين و الأساتذة في جامعات العالم فلو محّنا قليلا في عدد الحاصلين على هذه الجائزة في العالم العربي و الاسلامي في العشر سنوات الأخيرة لوجدنا صفرا من النتائج ناهيك عن تدهور الامكانيات و ضعف الاهتمام بالبحث العلمي و هجرة الأدمغة العربيّة إلى الدول الأوروبية و الولايات المتحدّة و غيرها من الأسباب العميقة كتدهور اللغات و ضعف الانتاج العلميّ و مشاكل كتابة المقالات العلميّة و الانجاز الأكاديميّ و غيرها.
ففيما تشكو الدّول الأوروبية تفوق الجامعات الانقلوسكسونية على جامعاتها ذات اللغة الفرنسية أو الألمانية أو الايطالية أو الاسبانية بمعدّل تأخّر رتبة أو رتبتين في كلّ تصنيف من تصنيفات شنغهاي تغرق الدّول العربيّة و غيرها في مشاكل جامعاتها الكثيرة التي  قد لا يلوح لها حلّ في القريب فإذا كانت عديد  التصنيفات العالمية المتواضعة في العالم  لا يظهر فيه مجهود جامعاتنا العربية و خاصّة منها التونسيّة فكيف الحال إذا كان التصنيف  الذي نتحدّث عن عدم ظهورها فيه هو التصنيف العالمي الأكثر جدليّة و أهميّة في العالم أي تصنيف شنغهاي للجامعات ؟

سميّة بالرجب