lundi 23 janvier 2012

كلّية الآداب : مشكاة العلم و اعتصام النقاب


               هو الباب الحديدي ذاته يستقبل منذ أشهر رواده قبلة للعلم لا تعرف الكلل و لا الملل.. هي الساحات الخضراء الفسيحة ذاتها تشهد يوميا ضحكات آلاف الزائرين، جلساتهم، مشاغلهم و أحلامهم..دموعهم و رائحة قهوتهم .. هي ذات المقاعد تحتضن تململ الآلاف منهم ان قلقا أو اصطبارا على المعرفة شاهد عيان على وشوشاتهم و همساتهم .. هي ذات الممرات أيضا لا شيء يعبئ خواءها سوى طقطقة اقدامهم كل يوم و تسارع خطاهم حثيثة نحو الأبواب المصطفة ذات اليمين و ذات الشمال .. و هي ذات القاعات ، لا يكتم صوتها سوى توجس الامتحان و هسهسة الانفاس في انغماسها بين السطور و الكلمات .. هي باختصار كلية الآداب و الفنون و الانسانيات بمنوبة ..ساحة كبرى للمعرفة  تتلاطمها بين الحين و الآخر موجات الأفكار المتآلفة و المتناحرة في آن  فاتحة ذراعيها بوابة عبور الى حذق اللغات و خوض تجربة الفن المجنون أو الغوص في الذاكرة أو لنقل كحلم  فريد تسكنه رومنطيقية الشعر و جدلية الحس و الفكر عمادها  في ذلك لوحة فسيفسائية من الرؤى ، لكن الحلم المزركش ينتهي الى كابوس مفزع فتغلق الكلية الفسيفسائية ابوابها ، "لا حلم بعد اليوم"،  هكذا جاء في  البيان الصادر عن المجلس العلمي للكلية - منذ اسابيع- ليضم الباب الحديدي الكبير فردتيه إليه ، و تقف احدى الطالبات ذات يوم على أعتاب الكلية النائمة لتتساءل في فوضى الأحاسيس المتضاربة  : "لماذا يغلقون الأبواب لدينا امتحان ؟" و يرد البواب الممتعض على مضض : " تلك عواقب النقاب " .
              تتقهقر الطالبة المتسائلة و تغادر مكسورة الخاطر.. و في مثل موقفها هذا وقفت طالبة منتقبة أمام استاذها بالكلية تطلب إليه أن يسمح لها بأن تمر الى الضفة الأخرى حيث عشرات من بنات سنها داخل القاعة لا يرتدين سواد ثيابها و لا يغمرن وجوههن بمثل نقابها ينغمسن في اجتياز امتحانهن في تناغم مع القوانين الداخلية للكلية ، يحاور الأستاذ طالبته المنتقبة و أمام اصرارها على خرق القانون الداخلي يرفض أن تمر الى ضفته  طالبة تأبى أن يتواصل الآخرون مع ملامح وجهها ، و مثلما أبت الطالبة ان تذعن لمقتضيات التواصل البيداغوجي  أبى الأستاذ أن يستقبلها في مملكته المعرفية الغارقة في تعاليم البيداغوجيا و صرامة التقاليد الجامعية ، لتغيب الطالبة  في هدوء و تتواصل رحلة الامتحانات ..








الكلية ..هدوء عاصف
              تدخل الكلية في اليوم الموالي للحادثة ، لتلفيها وسط فوضاها الجميلة تعيش على وقع التواتر الطبيعي للامتحانات  في هدوء كعادتها، لكن هدوء الكلية هذه المرة كان مختلفا شيئا ما، كان هدوءا عاصفا ..هي مجرد كلمات تنزلق منك  تساؤلا عن الحادثة العارضة و المتكررة للمرة الثالثة ،  لتجيبك "صابرين" احدى صديقات الطالبة المنتقبة : " منع أساتذة آخرون مثيلات "روضة" من الدخول الى قاعة الامتحانات في حال أبين الكشف عن وجوههن أثناء الدرس، صديقتنا المعدمة أرهقها الفقر و جهلها النقاب ". و بين الخطوة و الأخرى لا تسمع سوى صدى لتضارب في وجهات النظر لا تعكس سوى اعتمال مر للحادثة في نفوس الطلبة و هم يجوبون الممرات ذهابا و إيابا و يجانبون المشكاة المنتصبة في قلب الكلية في توجس بينما تحتل أوراق المراجعة مكانا لها بين أيديهم فمن مستحسن لموقف الأستاذ الى مستهجن له و من مدافع عن النقاب الى مستهجن له و من مستغرب لظهوره في الكلية الى لا مبال به .. هدوء الكلية، هدوء ما قبل العاصفة..
             نهاية الأسبوع كانت بداية القصة أما مبتدأ الاسبوع الموالي فكان خبر الصحف و المجلات و عنوانا بارزا لنشرات الأخبار في تونس و خارجها ..أطل يوم الاثنين موعدا جديدا لامتحان جديد و لكنه كان ايضا موعدا للكلية مع جمع من الملتحين يمتحنون صبرها، ها هنا أطلقت صرخة الفزع ..عشرات من الغرباء يحتلون اقسام الكلية بينما تهرول الابصار الى مقر العمادة هناك حيث صفر رئيس جامعة منوبة ليحاور الغرباء  في الوقت الذي استقوى فيه  "النقاب" بمحبيه فحشد و نادى وقال :" إلي؟؟"  فهب اتباع السلف الصالح- كما يحلو لهؤلاء وصف انفسهم -الى نصرته ليصرخ أحدهم :" لن يدخل طالب واحد الى الامتحان ..ما دمتم ترفضون دخول أختنا -في الله -لاجتيازه". و تتعالى الأصوات مدوية في أرجاء الكلية النادية صباحا..لهجة الغضب تملأ الأفواه فتصم الآذان عن النقاش و تتعالى الأصوات حادة أمام مقر العمادة هناك حيث وقف الجميع مشدوهين و انغمس آخرون في متابعة المشهد و التهام السجائر. فيهمس أحد الطلبة لزميله المشدوه:» ماذا يفعل هؤلاء المجانين ؟" ليرمقه صديقه بنظرة حائرة  :" انها قصة الطالبة المنتقبة تضع أوزارها".
تتسارع الأحداث و يتحول المشهد المريب الى واقع ممل و عنيف .. يغادر الطلبة على مضض تاركين وراءهم عشرات من الغرباء أمام العمادة بينما لم تنجح محاولات عميد الكلية في اقناع الجمع الغريب بالرحيل و تكتب تلميذة تدعى "زينب" على الفايسبوك :" في اليوم الأول لاعتصامهم وفي الاشرطة المصورة التي تناقلها الناس على فايس بوك، رأيت تلميذا يدرس بمعهد باردو بشعبة الآداب بينهم كان له من الفصاحة والخطابة ما مكنه من تقمص دور البطولة و تحميس الطلبة وجلبهم. "
يخيم الليل و يحط في جوف الظلام سوادا اشبه بسواد النقاب و يرابط الغرباء في الكلية ، يقول عميد الكلية بنيرة قلقة : " لم يرحلوا رغم محاولاتي المتكررة لإقناعهم بأن الكلّية مرفق عام مستقل لا سلطة للغرباء عليه  و حين حاولت الخروج من مكتبي حاصرتني عيونهم و هتف أحدهم بصاحبه :" حذاري انه العميد يحاول الإفلات منا، أظن أنهم قصدوا محاصرتي حينها بينما كنت خائفا على العمادة و الكلية ..حقيقة لم أكن لأتصور أي منقلب سينقلبون" .
لم تمضي سويعات قليلة على سقوط الظلام حتّى اقتحمت سيارة مسرعة ممر الكليّة. قرر الغرباء الملتحون  أن يحولوا العمادة إلى مبيت فزودتهم السيارة بالزاد و العتاد فيهمهم أحدهم بمصلى للجامعة بينما تتولى ألسنة البعض منهم الإعداد لاقتراحات أفغانية الصنع :" النقاب و المصلّى و أشياء أخر. كالفصل بين الذكور و الإناث ...الخ".
تصور القناة الوطنية الأولى أصحاب المبيت الجديد "العمادة" و يعتكف الأستاذ الحبيب " عميد الكليّة" في مكتبه بين رهبة الرحيل و رهبة البقاء الى الثّالثة صباحا و قبلها بسويعات يظهر رئيس جامعة منوبة على شاشة الجزيرة ليكشف شيئا من طلاسم المسألة - مساندة لزميله المحتجز داخل جدران العمادة -على الشاشة القطرية  :" في السنة السّابقة قبلت فتاة منتقبة داخل القسم فتبين أنها تغشّ و أنّ من دخلت للامتحان كانت فتاة غيرها ". و يضيف في ظلّ التوتّر الإعلامي :" هذه الحالات تستغلّ ضعف الدّولة و هي ستزول عندما تستعيد الدّولة قوّة مؤسّساتها" . كانت الكليّة أنداك جزءا من فوضى عارمة تهزّ دعامات البلاد بينما يغرق أعضاء المجلس الوطني التّأسيسي في أعمالهم و نقاشاتهم المطولة...

سمية بالرجب 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire