dimanche 29 janvier 2012

ارض اللعنة


قصة قصيرة لسمية بالرجب 



   الطريق ممتد.. طويل..و الظلمة تزداد غرقا في وجه المجهول مقطوعة الوتر..الطفولة وحدها كانت داك السراج الضعيف النور الدي يمتص العتمة الموحشة لينشر نوره الخافت حولي في طريقي المعتم...

   و لاول مرة اشعربالدعر من الطريق و اشباح الاشجار المطلة منه و لاول مرة يجتاحني الزمن مصورا في رومنطيقية الليل فوضى الغموض..
الآن فقط ادرك ان الزمن كان يلاعبني..يلعب معي..و يتلاعب بي كدمية قماشية مشوهة الملامح..الزمن كان ساعة رملية دات نظام غير مفهوم و انا كنت داتا بشرية تائهة تبحث في ثنايا الطريق المظلم عن بعض امل في حناياه..

   تجادلت و الزمن و تحول جدالنا الطفولي السادج الناضج الى حبات رمل نحت في جوفها الدهني شيئا من انحناءات الحياة البائسة و بعضا من آلامنا المبتورة..
كنت انا و الزمن نطرز اكمام قميصي الزهري باحلام العدارى و نعبث بالخيوط الفضية اللامعة و نضحك..نقهقه حتى تلامس قهقهاتنا السادجة سقف السماء و يصدع صوتانا جدران الحلم الاخير فندوب في وجع يتلوه وجع..

   ضحكت للزمن..و مع الزمن..و من الزمن..و نسيت ان ضخكاتي قد اختطفت مني في ظلمة الطريق ,افتكها الزمن مني عنوة و راح يحرقها امام عيني و يطمر اشلاءها و ينثر رمادها و هو يناديني ضاحكا و في صوته الجهوي سخرية مقيتة :

"لا حق لك بالضحك بعد الآن!!".

   فجاة..تقهقرت الطفولة و حل بي تساؤل مبهم يشابه عتمة الليل و اطيافه المجهولة فيصدعني السؤال :

"لمادا ؟ لمادا يمتص الزمن طفولتي كالثعبان و يلهو بخصلات شعري و يرحل في ركب اثيم ؟!..لمادا يسرق الزمن ضحكاتي و يخبئها في وجه الظلمة؟؟".

ها هما قدماي الصغيرتان العاريتان من كل نعل على تعب الطريق تلامسان التراب و تركضان في سواد الليل و تحت جنح الظلام خلسة , و ها هما عيناي الخائفتان تسترقان النظر الى آخر الطريق الطويل و هما تلتفتان بين الحين و الآخر الى الوراء و في بؤبؤيهما السوداوين دعاء صامت يستجد الامان و الطمانينة و ها هو الطريق الطويل تقطعه الخطوات السريعة في ايقاع غريب مخلفة وراءها غبار الوهن..

   ركضت في زحام الظلمة الكثيف و نسيت لوهلة انني تلك الطفلة الصغيرة المناورة تلك الطفلة التي اعتادت كل ليلة ان تتسلل عبر الظلال كشبح صغير في حدر و ان تطلق ساقيها للريح ادا ما بلغت الباب الخارجي للبيت..تلك الطفلة التي تغادر منزلها الدافىء في غفلة من والديها النائمين-عند منتصف الليل-و في خلدها نداء غريب يدعوها الى الرحيل و رغبة ملحة تدفعها لتحسس الطريق المعتم كي تلهو في الابان مع اشباه البشر..بل مع زمرة الاجساد الفانية في وهج الزمن..

تلك الطفلة الاكثر غرابة بين الاطفال..طفلة يتناهى اليها نداء الرحيل فترحل و يعيدها الحنين الى عقر دارها فتعود..و كثيرا ما تساءلت عن سر داك النداء و كثيرا ما خالجتني التساؤلات, خليط من التساؤلات حول مصير فتاة تعيش تحت جنح الظلام هائمة مع اطياف الموتى في ضوء القمر..

   مملكة الموتى..المقصد الوحيد و الوجهة الغريبة بل الاكثر غرابة لطفلة لم تتجاوز العاشرة من العمر بعد..
هناك..في ماوى الارواح المعدبة و في مقبرة القرية خبا الزمن ضحكاتي ..
هناك, اندست روحي بين ارواح كثيرة..ارواح بيضاء/سوداء/رمادية, اما روحي فكانت الروح الوحيدة التي انحرفت عن الابعاد الضوئية لتكتسب لونا زهريا زاهيا..

   كنت اشعر بوابل من الفرح يبللني و بسحابة ندية من الامان تغمرني, اركض بين القبور ضاحكة ..فاتحة دراعي لظلمة الليل..مطلقة صوتي البريء الى النسمات ليردده الصدى..ملاحقة تلك الارواح الهائمة في كر و فر..منجرفة في تيار الزمن السريع غير عابئة لا بوحشة المكان و لا باصوات الدئاب المتناهية الى مسمعي من الجبال المحادية لقريتنا .

   كل شيء كان يبدو رائعا..سادجا و بسيطا كبساطة الاطفال فلا انقطع عن الضحك ابدا حتى يداهمني الحنين الى البيت فاعود مرغمة ..منكسرة..حزينة و لكنني كنت دائما امني النفس بمسابقة الريح و التسكع بين القبور و مع الارواح المجهولة من جديد و غالبا ما يكون دلك في الليلة الموالية.

   و ضحكت..ضحكت و نسيت انني كالغريبة ادخل قريتنا الهادئة علىرؤوس اصابعي كمن يختبئ من وجه العدالة و اعبث  مع الخيوط الاولى للفجر و اغني للريح الخامدة..

قريتنا المسكينة..و اي شفقة تلك التي قد تحمل في كف الزمن تجاهها و اي شعور مماثل لشعوري بها و هي ترقد فوق الرماد و من تحت الرماد جمر الوعيد..

قريتنا المفعمة بالحزن كانت وجهتي المنبودة..الوجهة التي لطالما حملت لها في داخلي شعورا مرضيا بالحقد و الضغينة و الكراهيةو الشفقة..

علمتني القرية ان لا اقف عند اطلالها الباهتة فاتحة الفاه, واجمة, منتظرة ان تزهر اعشاب المقبرة على وجه الفناء الغامضة ..كنت طفلة لكن طفولتي لم تمنعني من رؤية المشهد و قد اكتمل لادرك ان قريتنا المغروسة في سفح الجبل لم تكن سوى جسد عار تنهشه الدئاب و تلفحه حرارة العداب و يدميه النحيب..


   كانت طفولتي مليئة بالحكايات الطويلة عن دوي الوجوه المهمشة و البطولات الزائفة و كثيرا ما تستهويني الخرافات..
الخرافات وحدها كانت الكفيلة بحل الرموز الغامضة لسر كتمته القرية عني طويلا..الجلوس الى جدتي العجوز في ايام الشتاء الباردة كان شكلا آخر من اشكال البحث عن الحقيقة و التمتع بفوضى الوقت و سذاجة الاشياء.

   كانت جدتي تحسن سرد الحكايات الخرافية الى درجة قد تنحبس عندها الانفاس و يكتم فيها الصوت..حتى جدتي الهرمة كانت تشارك القرية لعبتها القذرة..كانت تحكم التحفظ و التكتم على سرها حتى تغص بريقها و تشرق بدمعها و هي تراوغ و تراوغ و تراوغ كلما طلبت منها ان تروي لي خرافة عن قريتنا البائسة.

   علمت ان افشاء سر قريتنا كان حملا يثقل كاهل جدتي بل و مثيلاتها في السن و المقام..الكل يتكتم..الكل يحاول التهرب من اسئلتي المحيرة..الكل يخدعني..طفح الكيل و الحقيقة لا تبرح جوف الغموض و الطفلة الاكثر غموضا في القرية باسرها تقصد المقبرة كل ليلة بحثا عن الحقيقة في سراديب الموت..
   لا اذكر انني كنت اخاف الاموات..فالجلوس على القبور الاسفلتية كان يسليني..يجذبني و يغوص بي نحو الاعماق اما الحديث مع اصحاب الاسماء المجهولة و الاضرحة المبعثرة هنا و هناك فكان يواسيني و يبث في نفسي الامل بالعثور على الحقيقة..

سمعت يوما والدتي و هي تصرخ بي ناهرة :

"رقية!لا تطلي من فتحة الباب فالشياطين الآثمة تجول في الارجاء ".

    ليت امي علمت ان راسي الصغيرهدا لم يكن ليهابالالتصاق بالباب و ان عيناي الصغيرتان لم تكونا لتفزعا من  النظر من فتحته لتلمحا موكب موت و هو يغرق في الصمت و شيء من ضباب الفناء الجنائزي يلفه حاملا معه سرا آخر الى الاعماق عن حقيقة هذه القرية الغامضة..لقد اعتدت ان اداعب طفولتي في ارجاء  المقبرة..فوق قبر ذاك او ربما بجانب قبر تلك..رغم انني لم اكن املك من الاسرار القدر الكافي لاعطي لكل مقبور الحق بالاحتفاظ بسر منها ..

   الزمن كان دوامة مقيتة تتلاعب بنا ..تقذفنا من اعلى الصرح الى اسفل الهوة فتردينا جثثا هامدة و ان كان في ذلك ما يثير لدينا روعة الاحساس بالراحة و السبات.

   و ضحكت..ضحكت ذات ليلة رايت فيها لاول مرة شبح امراة قلق يشق عباب الظلمة مخترقا ضباب الوحشة مجبرا اياي على الاختباء ,شبح كئيب جاء في الهزيع الاخير من الليل ليقر بالخطيئة و يعترف للظلمة بمكنونات صدره بعيدا عن الغيون و الاسماع..جلست المراة القرفصاء الى جانب احد القبور ثم ما لبثت ان اطلقت صرخة مدوية في الارجاء لو كان بوسعها ان تهز القبور لفعلت ..

ندبت..لطمت..ضحكت و بكت حتى تعبت,كانت كالمجنونة توزع قهقاهاتها الساخرة على الرموس الباردة و تتمايل كالافعى الرقطاء عاى حجر الضريح منتحبة و وجهها المغرق في الجنون يزداد انكماشا و احتقانا الى ان سمعتها تقول بكلمات متتداخلة قلقة و على ثغرها ابتسامة عابثة :

"اخيرا..اخيرا وافتك المنية, خلت انك لن ترحل عني حتى تراني غصنا يابسا تكسره العواصف..رحمك الله ..كنت ستارا يحجب عني العيون و يخفي حقيقة هذه القرية البائسة..الحمد لله انك فارقتني و مازال في جسدي بعض من الحياة..نم بعمق و انعم بسابتك الازلي فضلك الهرم الذي غمرني فيريعان الشباب بتر كل الالسنة و اخرجني من دائرة الاتهام و الشبهة و الآن لن يمنعني شيء من التحرر كليا من اغلالك الصدئة..آه..لن انسى ان اشرب نخب هذا الاعتراف..فالى الملتقى".

رحلت المجنونة عن قبلة الهدوء هائمة على وجهها مخلفة وراءها عاصفة هوجاء من الحيرة تطرق منافذ راسي و شسئا من بقايا فزع و هلع خلفه وصولها المفاجئ الى مملكتي الساكنة..ربما كانت تزف هذا الاعتراف الوقح بالخيانة لزوج مخدوع شيعت جنازته منذ ايام قلائل و لكنها و دون ان تشعر بوجودي كانت تناولني راس الخيط لاتتبع آثار الحقيقة علني اصل الى مخبئها السري..

   وللمرة الثانية يتلاعب بي الزمن, فلا يكتفي بافتكاك ضحكاتي البريئة فحسب بل افتك طفولتي باكملها فيدفنها في احد القبور ليخرجني في الاثناء كفراشة من شرنقتها, فينحت انحناءات المراهقة و النضج على جسدي و يطيل جدائلي و يحرمني من بريق ساذج يملا عيني..

غدر بي الزمن ثانية, لكنه كان يقربني من مكمن الحقيقة ,الحقيقة التي امضيت سنوات من العمر راكضة..لاهثة خلفها و هي تمسح ما خلفه من آثار وراءها و ترسم لي في المقابل طريقا زائفا كالمتاهة لاضيع بين حناياه.

ضعت في دروب الحقيقة الزائفة كثيرا و تهت في متاهة السنين اكثرالى ان نادتني جدتي ذات يوم مترددة و في عينيها صور ماساوية لماض بعيد..هرعت اليها متلهفة و قد ادركت انها اخيرا ستلقي بالحمل عن كاهلها و تكشف عن سر هذه القرية اللعينة ..جلست اليها و الفضول ينهش سمعي فمسحت على راسي و قالت :

"ايه..جاء الوقت ليتسلم احفادنا مشعل الشقاء و يحملوا الامانة المثقلة بالهموم عنا..
ذات يوم حملت الامانة المليئة بالاوزار عن جدتي و والدتي و الآن جاء دورك لتعرفي حقيقة ارقت نومك طوال هذه السنوات.

"كانت سنة من القحط و الجفاف و الجوع حلت بقريتنا الصغيرة هذه..بكاء الاطفال العطشى و نحيب النسوة الجائعات و ياس الرجال و خوفهم من الفناء كانت ماساة حقيقية اجتاحت قريتنا في غفلة من الزمن لتقوض نفحات الايمان في قلب كل امراة و رجل و ربما كانت البلية و ذاك الاحساس الاكيد بالهلع و الخوف من الموت مرآة عاكسة للكفر و الاحباط و الحزن...الى ان جاء قريتنا في عمر ازمتهاشيخ صالح من المحسنين ليعيد الى النفوس و القلوب المليئة بالكدر و الخوف بصيصا من الامل يضيء عتمة الحياة امامها فعلمهم الصلاة و الصبر و تجلد امام تقاعصهم و ياسهم و رفع يديه بالدعاء لهم و لقريتهم في صلاة الاستسقاء التي كان يؤمها..فغمر الغيث النافع قريتنا بعد ان استجاب الله سبحانه و تعالى لدعاء الشيخ و من معه و شاءت الاقدار ان تعود الحياة الى قريتنا..لم يكن الرجل الصالح ليطلب جزاءا على صنيعه لكنه احب القرية و اهلها بعد ان اعاد اليها صفاءها و انعم الله عليه بان جعله صاحب الفضل بعده في اصطلاح امرها فارتاى ان يتزوج فتاة من قريتنا و بمجرد طرحه لهذا المقترح حتى تنافس في الامر المتنافسون..فكل عائلة تطمع بان تزوج ابنتها للشيخ الصالح ..

و بات الامر اشبه بسوق للجواري و تحولت هذه الفكرة الى هاجس بل الى حرب متقدة..
اشتد الصراع بين العائلات و انتهى الى طريق مسدود, فلا حل يلوح في الافق لمسالة تزداد تعقيدا مع مزوز الايام على بساطتها..
و قررالاهالي و قد استعانوا بالشيطان وليا ان يطردوا الشيخ من القرية علهم بهذا يقطعون راس الحية  فينته جدالهم اللعين لى عدم لكن الشيخ ابى الا البقاء في القرية خاصة و انه كان دون مستقر فوجد في هذه الارض و اهلها ما يطيب له فيه العيش و المقام..فزادت المشكلة تازما و احتدم الصراع بين القوم مجددا و الشيخ باق في القرية لا يبرحها و اخيرا توصل اهل القرية اخيرا الى قرار حاسم و هو ان يقتلوا الشيخ تفاديا لنشوب التناحربين ارباب الامور و كانت الكارثة بعينها!!!
فما ان خرج الشيخ الصالح من المسجد حتى اخذ الناس في رجمه بالحجارة حتى خر على ركبتيه و وقع على الارض و الناس لا يكفون عن رجمه و لا يعدلون و قد اشتعلت اطماعهم في مقلهم..
سقط الشيخ..رفع اصبعه للشهادة..تشهد..ثم قال بصوت قطعته سكرات الموت :

"ربي..ان هؤلاء قوم لا يعقلون حرموني الزوجة الصالحة و الخلف الصالح من بعدي ..اللهم اني ادعوك بقلب المغلوب على امره فاستجب لدعائي الاخير و انا بين يديك و اجعل مصيبة هؤلاء في ازواجهم و نسلهم انك لا تحب المعتدين..".

و مات الشيخ الصالح لاعنا قريتنا و منذ ذاك اليوم و هي تغرق في الحميم فلا  والد يعرف ابن صلبه  و لا امراة تعدل عن الخطيئة و لا رجل يحترم حرمة بيته .
لعنة الشيخ ظلت كالدود تنخر القرية و اهلها و الدنس يلفها و يلفهم".
بكت جدتي..انزلت عن ظهرها حملها الثقيل و تخلصت من سر دفنته بين ضلوعها  منذ امد بعيد...
اكتشفت ان البغاء كان كارثة النساء و الرجال في قرية تعج بمجهولي النسب و الهوية ... 
الكل هنا يبيع نفسه للمال و الرغبة الآثمة..
المال الذي يتلون في اول النهار بالعرق و الجهاد ليحترق في آخر الليل بلهيب الفجور..الغانيات تملان الانهج و الازقة..

نساء يتسللن نهارا لطرق ابواب الرجال..رجال يتسلقون اسوار البيوت و شبابيك الغانيات و اطفال يتوهون في وجع الحقيقة.

    منذ ان كشفت جدتي عن وجع القرية و جدتني اتسلق كل يوم شباك بيتنا لاراقب كل من يذرع الطرقات ذهابا و ايابا ..
الكل يطل من الانهج الضيقة و على جبينه وصمة عار..كنت احب القبور و مازلت ففيها فقط يتجسد شي من الطهر و العفاف و لم اتساءل يوما و طوال ترددي على اصحاب الاضرحة المجهولة اذا كان يرقد بين تلك القبور جمع من المدنسين لانني في العمق كنت ارى في الموت عقابا كافيا لهم..عقابا يطهرهم من دنسهم و يمنعهم بشكل دائم من مواصلة التمرغ في الوحل مع من يعيثون في ارجاء القرية فسادا و ربما هكذا لن ينجرفوا ثانية في تيار اللعنة..

   و ضحكت..ضحكت حين رايت قريتنا ذات ليلة في احد كوابيسي و هي تصرخ متخبطة في قدر ضخم من الحميم الملتهب و الاشواك و الحجارة الحادة و هي تنتفض مناشدة يد العون و صوت من السماء المتلبدة يلاحق تاوهاتها اليائسة صارخا :

"ذوقي..ذوقي عذاب الحميم ذاك سخط الالاه".

استيقظت من الكابوس فزعة,محمومة الجبين..انه منتصف الليل!..لا صوت..لا حركة في الارجاء اذا فالكل نيام ..قصدت الباب الخارجي للبيت و النداء الغريب يستفز فرائصي..
دفعت الباب في رفق و حذر و كعادتي اطلقت ساقايا للريح قاطعة طريق المقبرة المظلم  بسريع الخطى و في ظلمة الليل القيت بهمومي فانجرفت في تيار الدموع ..
جلست على احد القبور المجهولة و طفقت ابكي..

المقبرة موحشة و الليل مارد اسود و انا ابكي و ابلل روحي الزهرية بدموع الخيرة و الاسى و في غيبوبة الدمع احسست بيد غريبة تقترب من يدي في عنف و لهفة, تحكم قبضتها الامساك بيدي ثم تجرها عنوة الى انفاس محترقة و تضغط على كفي في قسوة ..تكتم الصدمة صوتي و تشل حركتي فاجذف يدي في ذهول و خوف و انظر الى صاحب اليد الآثمة و الشهوة الملتهبة فاذا به شيخ يريد ان ينساق كغيره من الآثمين في قطيع الخطيئة و الفجورفصرخت به قائلة في ذعر :

"من انت؟..من انت تبت يداك".

فرد في لهجة رصينة و هو يصلح من شان عمامته :

"انا الشيخ الصالح الذي انقذ القرية و لعن اهلها جئت ابحث عن عروسي التي حرمت منها..و لولا طهرك ما اخترتك عروسا".

اختلطت الحقيقة بالسراب و تزاحمت الاحاسيس و تاهت في كوكبة من النحيب, فلم البث ان ركضت في الخلاء لا الوي على شيء و عيناه تلاحقانني و الشهوة  تشتعل داخلهما.
ضقت ذرعا بقريتنا و قد اكتشفت ان ارض اللعنة التي تساءلنل عنها صغارا لم تكن سوى ارضها الآثمة.

امتزج الطاهر بالفاجر و العفيف بالآثم و الحابل بالنابل و رايت في وجه الزمن سفرا طويلا يغربني عن قرية بلا رقيب..الزمن كان يفتك هذه المرة احلامي و سنوات من عمري و انا صامدة في مهب الريح..

رحلت بعيدا و في ذهني كانت ترسم لوحة فريدة لفوائد السفر السبع..
بيتنا الدافئ المقابل لطريق المقبرة بات خاملا يشابه في خموله ظلمة الليل و القرية باتت وراء ظهري و في عينيها بقايا بكاء و كان بها تودع رقيبها الصغير لتصرخ بي ذات ليلة في الحلم متوسلة :

"رقية..رقية..عودي يا رقية..لم يعد من مكان بعدك الا و دنسه الكفر و الفجور..عودي يا رقية!!".

صرخت القرية و توسلتني العودة اليها ممزقة لكن توسلها ذاك لم يكن ليعيدني الى وجهها المشوه المعالم وجسدها الذي نهشته الذئاب من البشر فصحت بها غاضبة :

"لن اعود تبا لك من قرية بائسة ملعونة..ذوقي..ذوقي عذاب الحميم ..ذاك سخط الالاه ".
   اما على مقربة مني و منها فكان الزمن ضاحكا  و هو يلون باقلامه صفحة اخرى من صفحاته و يدون في اخرى حروفا من وجع.



سمية بالرجب

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire